طفولة مغتصبة


ضحايا البيدوفيليا…

أنا الصّغير الذي رحلتُ دون أن أعانقَ أمي، وأغرق في حضنها لِتهمسَ في أذُنيّ كم تُحبّني، دونَ أن أودِّعَ رِفاقي وأصدقائي، وجيراني. دون أن أتّكِئ على كتفِ أبي ليُخبِرني كم هو فخور بي.

رحلتُ فجأةً، وبِطريقةٍ وحشيَّةٍ لا يُمكنُ لذي قلبٍ وضميرٍ حيٍّ أن يتخيلَّها، استُدرِجتُ إلى حتفي بِبراءةِ طفلٍ جُبِلت فطرته على الخيرِ، والظَّنِّ الحسنِ، فلم أدرك سوءَ المكرِ الذي ينتَظرني. ذهبتُ وعينايَ اللامِعتانِ لا تتوقعانِ ما سترينه من عُنفٍ واغتِصابٍ لبراءتي وطفولتي.

هل أصِفهُ بالوحشِ، أم الغولِ الذي كانوا يلقونَ على مسامعِنا قِصصاً مُخيفةً عنهُ؟ لكنّ ملامِحهُ لا تشي بأيٍّ من تلكَ التي يتّصِف بها الغول أو الوحش؟

هل أصِفهُ بالشيطانِ المتلبِّسِ بصِفةِ إنسانٍ؟ بلى، فهو يبدو كذلك تماماً، ملامحٌ إنسيَّةٌ لطيفة، تُخبّئُ خلفها أفعال شيطانيّة مَحضة.

بينما كنتُ أمشي حذوهُ لم تصلني شرارةُ شرّهِ الموقدة، ولم أشعر بالخوفِ أو الهلعِ منهُ، كنتُ أظنُّني سأسدي معروفاً لهُ، وأعودَ أدراجي إلى بيتي، إلى أمي وأبي وعائلتي، لكن لم يحدث هذا أبداً، فما إن مددتُ إليهِ يدايَ بالخيرِ، انقضَّ عليّ كما تفعلُ الحيواناتُ المتربِّصة بفريستها.

هتكَ عرضي، ومعه طفولتي، خنقني فانقبضتِ الحياةُ بِصدري، ضغطَ بجهدهِ الكاملِ على نفسي، فانحبستِ الآهاتُ بِداخلي، وما إن وعيتُ حتى وجدتُ جثّتي هامدة.

هرعتُ أواري سوءتي، لكن دون جدوى. انقضضتُ عليهِ لأخنقهُ كما فعلَ بي، لكنّ يداي مرّتا خلف عنقهِ فتشابكتا معاً. هنا عرفتُ أنني رحلتُ إلى برزخٍ، ولن أعود إلى والديّ أبداً، بل أنّني من سينتظرهما على حافةِ دنيايَ الأخرى ليَلحقا بي.

جلستُ بركنٍ محايدٍ أتطلّعُ إلى جُثماني، فإذا بذاكَ الظّالم يلفهُ بقسوةٍ في غطاءٍ مُهترئ، وكأنّني لا أستحِقُّ أن  أحظى بدفنٍ يليقُ بإنسانيّتي. سلبَني حياتي وكرامتي، وطفولتي، وها هو ذا يسلِبني حقي في اغتسالٍ ينظّف جسدي من وحلِ ما صنعت يداه بي، في تشييعِ جثماني كأيّ إنسانٍ رحلَ إلى دار البقاء.

حتى وأنا ميّت لم يتوانى عن تعذيبي، ليحفرَ حفرةً في الحديقة التي لطالما لعبتُ فيها مع رفاقي، ومررتُ بجانبها مع والدايَ، بل كنتُ ألمحها من نافذةِ منزلي، وها أنا ذا أطمرُ في ترابها الذي يعبِقُ برائحةِ ذكرياتي، وطفولتي وحياتي.

لا أعلمُ كم لَبثتُ في هذه الحفرة قبل أن تنتشرَ فاجعةُ رحيلي وملابساته في حيِّي ومدينتي، بل ووطني كالنّارِ في الهشيم.

صُعقَ والدايَ، وأهلي، جيراني، وأبناءُ وطني ممن يعرفونني، ومن لا يعرفونني.

انقسم النّاس في قضيّتي إلى قسمين، أحدهما مُتضامنٌ يُطالبُ إنزال الجاني بأقصى العقوبات، وأخر يحلّلُ ويفسّرُ واقعة أمري على هواه، بل هناكَ من زاد الطّين بلّة حين ظنّ سوءا بحسنِ نيتي، وطهارةِ سجيتي، ولم يعرف أن الأمواتَ لا يُذكرون إلا بخيرٍ.

هذه رسالتي..

فسجّل يا وطني، يا أهلي، يا أبناء وبنات سنّي، إنّ الدنيا تبَدلت، والأرضُ من صالحٍ وطالحٍ ما خلت، منذ غابر الأزمانِ وُجِدَ الخير والشّر، غير أن في زماننا تحصلُ أمورٌ في القديمِ ما حصلت، عليكم بالحيطةِ والحذر من كلّ غريبٍ، إلجَأوا إلى آبائكم إن أحسستم بالخطرِ يتربّص بكم، اسألوهم عن أيّ شيء يُشوّشُ أفكاركم، وإن نهروكم فألِحّوا بالسّؤالِ ولا تستسلِموا، فليسَ غيرهم أجدرُ بتوعيَتِكم، وإرشادِكم. لا تثِقوا بأي شخصٍ يطلبُ منكم يدَ المساعدة، فهناك ذئابٌ ترتدي ثوبَ الخِرافِ لِتقترِب منكم، وتَذكّروا أنّ الله حباكم بفطرةٍ سليمةٍ، هناكَ من يسعى لتدنيسها وانتِكاسها، فكونوا حذرين.

إلى وطني الحبيب، هناكَ الآلافُ من أمثالي، سواء مِمّن بُتِرت طفولتهم، أو وُئِدت مِثلي. نحنُ أبناءك وبناتك الذين كانت أحلامهم أن يكبروا ليرفعوا مِن قدركَ، ويُعلّوا من شأنكَ، منا من كان حلمه أن يصبحَ طبيباً، أومهندِسا، أومُعلّماً يربي الأجيالَ ويُحسن تعليمهم.

لكننا رحلنا قبل أن نكبُر لنعانق أحلامنا. إنّنا نُعزّيك كونكَ مظلومٌ مِثلنا، فلا شأنَ لتُرابكَ المُرغمِ على احتِضانِنا، وهو يذرِفُ دموعَ الحسرةِ والخيبةِ في كل مرّة يضُمُّ إليهِ ملاكاً طاهِراً استُبيحَ دمه. فكما يُقال “لا دخل للعنب بما يفعله النبيذ”.

أنا عدنان، ونعيمة، وإكرام، والملايين من الأطفال الذين راحوا ضحية البيدوفيليا، والفساد، وغياب الضمير والأخلاق عند وحوش بشرية تقضمُ أرواح الصغار، وتشتهي أجسادهم البريئة بغريزة حيوانية تُروِّضهم، دون استِحياءٍ أو عطفٍ ينهشونَ أعراضهمّ، ويُدنِّسونَ روحهم.

بيننا وبينكم يومٌ لا ينفعُ فيه ندمكم ومعذرِتكم. جوبوا في الأرضِ كما يحلوا لكم، فإنّنا نوقِنُ يقيناً تامّا أنّ محكمة السّماء أعدل من محكمة الأرض.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي يوث.

Exit mobile version