ظاهرة تلبس الجن بالإنسان – الجزء الثاني

لقراءة الجزء الأول من مقال “ظاهرة تلبس الجن بالإنسان”، اضغط هنا

حاولنا بفضل الله تعالى في المقالة الأولى من هذه القضية أن نقف على بعض الاشارات والنُّتفِ في المسألة بصفة عامة، وتحدثنا كذلك بشكل عام عن بعض النصوص التي يحتجُّ بها المؤمنون بظاهرة التلبس الجني، وفي هذه المقالة الثانية سنقف بحول الله على بعض الحالات المرضية التي يعتقدها الناس تلبسّاً ونظرة الطبِّ النفسي تجاهها، أو بمعنى آخر تشخيص الطب النفسي لهذه الحالات.

لقد عايشت شخصياً حالات مرضية والتي يعتقد الناس أنها حالات مسٍّ أو تلبس كما هو مشهور في العرف السائد منذ زمن بعيد، لكن بعد التمحيص والبحث اتضح أن الأمر لا يتعلق بدخول الجن في جسد الانسان وأنه يسكن فيه، ويحضر الشيخ المعالج باستعماله أساليب معينة من اجتهاداته في طرد هذا الجني الذي يسكن جسد المريض، كأن يسبه ويلعنه ويأمره بالخروج، فإن لم يفعل كان نصيبه الضرب بالعصا وغالبا ما يكون هذا الضرب تحت الأرجل حتى يصيح ويصرخ.

وهنا في اعتقاد الشيخ المعالج أن الجن هو الذي يحس بالألم والعذاب!! وأن المصروع أو المريض لا يحس بألم ولا أي أذى، فيخرج الجني ولكنه قد يعود مرة أخرى ويتطلب ذلك مراجعة الشيخ المعالج مرة أخرى.

إن هذا الفكر الخرافي لا يبشر بالخير أبداً، حيث كل ضرب يقع في جسد المريض فهو الذي يحس بألمه وأذاه، ولكن الشيخ أو المعالج لا يبالي بذلك ظنا منه أن الجني هو الذي يُعذّب بهذا الضرب والسوط، وكم من مريض مات بسبب هذا الضرب.

“المعروف طبياً أن بعض المرضى عندما يكونون في حالة غيابٍ، أو تغييرٍ في الوعي نتيجة لنوبة (اضطراب تفككي أو تلبسي)، قد لا يستجيبون للمؤثرات الخارجية مثل الشعور بالألم، فيُعتقد عندها خطأ أن عدم استجابتهم تعني أن الجني هو الذي يحس بالألم، وليس المريض الذي لا يبدي أيّ تأثر واضح بما يحدث له في تلك اللحظة، ولكن قد يلاحظ أثر الأذى عندما يستعيد وعيه كاملاً”.(1)

إننا نقول ونؤكد على أن النبي صلى الله عليه وسلم لو وجد في عصر التقدم العلمي لوجَّه هؤلاء المرضى الذين نراهم يلزمون بيوت الرقاة، إلى الأطباء النفسانيين، ونقول كذلك لو وجد عليه الصلاة والسلام بين أيدينا الآن ورأى أسلوباً من هذه الأساليب التي يقوم بها بعض الرقاة في تشخيص وعلاج هذه الأمراض لأنكر عليهم ذلك.

كما أن المؤمنين بهذه الظاهرة يزعمون أن القرآن يحرق الجن ويعذبه بل ويقتله كذلك.

يقول شريف السليماني(2): “يزعم المؤمنون بالمس كذلك أن قراءة القرآن تؤذي الجني المتلبس بجسد الإنسان بل قد تحرقه كما هو شائع في “عالم الرقية والصرع”، أي أن قراءة القرآن تحرق الجان! وهذا أمر يستبعده العقل والمنطق وتعوزه الأدلة الشرعية.

فمن المعروف أن الجن كالإنسان مخاطبون بالقرآن ومكلفون بتكاليف الدين، حسب تكوينهم وطبيعتهم التي خلقهم الله عليها والتي لا يعلم حقيقتها غيره سبحانه وتعالى. ومن الجن مؤمنون ومنهم غير ذلك. وقد أخبرنا الله تعالى عن سماع بعضهم القرآن وإيمانهم به، بل ودعوتهم أقوامهم إلى الإيمان به.

قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الأحقاف:29-30-31.

فالقرآن إذا، كتاب دعوة للجن، هو هداية لمؤمنهم وحجة على كافرهم. وما دام الجن مخاطبين بدعوة القرآن مطالبين بالإيمان به، فلا بد أن تزول في حقهم عوامل الإكراه وتتوفر لديهم الظروف الملائمة لحرية الاختيار والقبول أو الرفض. وحينما نتصور أن سماع القرآن يعذب الجن ويحرقهم بل وقد يقتلهم! فإن ذلك يتعارض مع وظيفة القرآن الدعوية للإنس والجن على حد سواء. وسيصبح القرآن بهذا المفهوم، كتاب إرغام وإكراه لا كتاب دعوة وبرهان.

بل إن الاعتقاد بأن سماع القرآن يؤذي الجن ويحرقهم.. يتناقض تماماً مع ما يجب أن يتوفر في كتاب الدعوة والهداية (الذي هو القرآن) من أوصاف التحبيب والتقريب والترغيب ليلقى القبول في آذان السامعين وقلوبهم من المخاطبين به سواء كانوا من الجن أو من الإنس. فالقرآن نزل لهداية الجن وليس لحرقهم!

إن الذي يظن أنه يعظم القرآن ويعلي من شأنه عندما يعتقد فيه حرق الجن وتعذيبهم واهم ومخطيء جدا. فالذين يدّعون حرق الجن وصرعهم وإخراجهم من الأجساد، لا يفعلون ذلك بالقرآن فقط. منهم من يدعي صرع الجن وحرقه بالقرآن كما سبق فعلا، لكن منهم من يفعل ذلك بالبخور وبالدخان وحتى بالموسيقى والأنغام! كنغمات (كناوة وعيساوة) مثلا عندنا في المغرب.

فهناك أشخاص يدّعون هم أنفسهم أو يدّعي البعض أنهم مصابون بالمس، كلما سمعوا الهجهوج والسنتير والطبل والبندير صرعوا وربما سقطوا أرضا وأغمي عليهم. بل إن من أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام من يدعي طرد الجن وإخراجهم بالصليب! والغريب أن ردات فعل المرضى الذين يظن بهم المسّ تتشابه وربما تتطابق، سواء تمت رقيتهم بالقرآن أو بالأنغام أو بالصليب! صياح وعويل واضطراب وتخبط ونطق للجن على لسان المريض..

فهل يعني هذا أن هذه الوسائل الأخرى المستعملة والمجربة في علاج المس أيضا معظمة وعالية القدر لأنها تحرق وتقهر الجن وتطردهم كما القرآن؟ لكم واسع النظر.”(3)

وقد ذكر هذا الأستاذ الكريم قصة عاشها هو نفسه باعتباره يمارس الرقية الشرعية آنذاك قبل أن كان من المؤمنين بالظاهرة التي نحن بصدد دراستها، سأنقلها من مقاله الذي نشر له في موقع “مغرس”المغربي  يقول: “قصدني مرة شاب كان يعرف أنني أرقي المصابين بالمس وطلب مني الذهاب معه إلى بيت أحد معارفه لأن لديه مشكلة ويرجو أن أساعده على حلها. ذهبت بالفعل مع الشاب إلى بيت قريبه.

جلست إلى جانب المعني بالأمر وسألته عن مشكلته فقال إن زوجته لاتزال بكرا رغم أنه دخل بها منذ ما يزيد على الشهرين! لأنه لم يستطع معاشرتها بشكل طبيعي منذ تزوجها. سألته عن السبب فقال إنها مسكونة بجني ولعله يكون قد تزوجها! قلت له: وما أدراك بما تقول؟ فأجابني: كلما اقتربت منها أغمي عليها وصرعت وتغير صوتها وبدت عليه نبرة الذكورة! نادى الرجل زوجته لأرقيها.

دخلت الزوجة فتفاجأت لما رأيتها. كانت لا تتزاوج العشرين من عمرها والزوج يكبرها بعشرين سنة أو يزيد. لم أر بينهما أي وجه من وجوه الكفاءة، لا شكلا ولا مضمونا.

أضف إلى ذلك أن الزوج كان يقيم في أوروبا وقد استقدم زوجته من المغرب. كل هذه المعطيات جعلتني أفكر في احتمالات أخرى قد تكون وراء “غيبوبة” الزوجة قبيل المعاشرة غير سبب المسّ بالجن الذي يعتقده الزوج.

سألت نفسي مثلا: هل غيبوبة الزوجة هذه غيبوبة حقيقية أم مصطنعة تقوم بها لتتفادى معاشرة زوجها لغاية في نفسها..؟ ومع أن هذا الاحتمال كان هو الأرجح عندي، إلا أنني قمت بالمهمة التي جئت من أجلها نزولا عند رغبة الزوج. رقيته هو وزوجته ثم انصرفت.

بعد أيام، اتصل بي هذا الزوج مرة أخرى قصد إعادة الرقية لكنني اعتذرت له. ثم اتصل بعد ذلك فاعتذرت ثانية ونصحته أن يبحث عن حل آخر غير الرقية. فقال لي إنه لم يتصل بي من أجل الرقية ولكن لديه سؤال يريد أن يسألني إياه.

كان سؤال الرجل كالتالي: هل يمكن أن يعالج الراقي المرأة بالتقبيل واللمس في الأماكن الحساسة من جسدها؟. قلت مندهشا: ولِمَ هذا السؤال؟ فأجابني: لقد أحضرت زوجتي إلى أحد الشيوخ ليرقيها فطلب مني الانتظار خارج الغرفة.

وبعد انتهاء عملية الرقية وبينما أنا وزوجتي في طريقنا إلى البيت، أخبرتني أنه كان يقبلها ويلامسها في أماكن حساسة من جسدها…! كدت أنفجر غضبا مما سمعت فطلبت منه تحديد هوية هذا الدجال لنفضحه ونحذر الناس منه وربما نتخذ إجراءات قانونية ضده. لكن الرجل رفض أن يعطيني أي تفاصيل يمكن أن تقود إلى ذلك “الراقي”، معللا موقفه بالخوف من أن يرسل إليه جنونه أو أن يقع له مكروه إن هو دخل معه في خصومة!”

للأسف الشديد هذا ما يسقط فيه كثير من الناس، يسلِّمون زوجاتهم وأخواتهم  لبعض عديمي الضمير باسم الرقية الشرعية والمس الجني فيفعلون ما قد يتبرأ منه هذا الجن المسكين الذي يتهمونه بالدخول في أبدان الناس، ولا نتهم جميع الرقاة بهذا الفعل بقدرما نُحسِنُ الظن ببعض إخواننا الصادقين في الميدان، بل منهم من أصبح تنتابه شكوك وحيرة وتردد في المسألة بسبب الغموض الذي يقع عندهم في تشخيص المرض بدخول الجن في أبدان العباد.

إن الطب النفسي والعصبي المعاصر أصبح قادراً علی تشخيص وعلاج معظم الأمراض التي فسرها الأقدمون علی أنها دخول الجن لبدن الإنس.

ولتوضيح الصورة أكثر سنذكر باختصار شديد بعض الأمراض العصبية والنفسية التي شخّصها الطب النفسي المعاصر، وهي نفسها التي فُسِّرت بالتلبس الجني. لكن إلى مقالة ثالثة إن شاء الله تعالى أستودعكم الله وإلى ذلكم الحين.


(1) مقال كتبه الدكتور الأمين اسماعيل بخاري في موقع كابوس: http://www.kabbos.com/index.php?darck=205
(2) شريف السليماني  يتولى مهمة الإمامة والخطابة والوعظ والإرشاد في مسجد بمدينة روزندال بهولندا  منذ سنة 1998 إلى حد الآن، وهو خريج معهد البحث الإسلامي بمدينة وجدة بالمغرب، وكان أستاذا بمدرسة الإمام ورش لتحفيظ القرآن وتدريس العلوم الشرعية  بمدينة بركان.
ولما التحق إلى هولندا، درس اللغة الهولندية وتمكن منها،  وأصبح يترجم خطب الجمعة إلى اللغة الهولندية منذ سنة 2008، مما جعل مسجده قبلة للشباب الذين لا يتقنون العربية أو لا يتكلمونها….. ومنذ سنة 2013 بدأ يكتب مقالات شبه أسبوعية، تنشر على الكثير من المواقع الإلكترونية، وأشهرها موقع هسبريس المعروف في المغرب والعالم العربي. ولوعيه بأهمية التكوين الأكاديمي، فالأستاذ يتابع دراسته الآن بجامعة روتردام الإسلامية.
(3) شريف السليماني: https://www.maghress.com/al3omk/151604

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version