اضغط على المربع لقـراءة | عبـادة الكتابة (الجزء الأول)
في تلك اللّيلة اللّعينة التّي أُقحِمتُ فيها إقحاماً -مُكبّل اليدين حُرّ الأصابِع- في تلك المدينة الزرقاء التّي ظاهرُها مليـح وباطِنها قبيـح مُكرَهاً، أهلُها كُثُرٌ ومُتنوعون، بين كريمٍ ولئيمٍ يختلفون..
بعد ذلك الانقلاب العنيف التّي قادتهُ التّكنولوجيا، مُنتقِمةً مِن الأقلام، ومِن كلّ مَن يعتمد في نشاطاتِه اليومية على الشُرب مِن بُحيرات المِداد، وبعد أن شارَكت في تِلك الثورة كُرهاً، اكتشَفتُ أن القَلَم الذّي كُنتُ أستعين به للسّفر والسياحة عبر تِلك الوُريقات البيضاء، قد شَرَع في ترصّدي خِفيةً أينما ذهبتُ وأينما جلستُ، أسمَع صريره ولا أراه، أرى وَقع أقدامِه ولا أُبصِرُه!!
ذات ليلة وبينما كانت أصابِعي تُواعد أزرار جهاز الحاسُوب، بعد أن كانت تُواعد الأقلام داخل سُهول الأوراق وغاباتها الكثيفة، كأنّي سمِعت همساً غير مفهومٍ، فحَاوَلتُ اكتشاف مصدرِه، هل أتى مِن بعيدٍ أم مِن أعماقي يُبثُّ؟ فقُلت: أسمِعني ما تُريد قَولَه يا أنت، فلَم يَصدر أيّ شيء، فأعدت كلامي مرّة أُخرى بلهجةٍ حادّة قائلاً: تكلّم حتى أراك يا هذا، ومرّة أخرى الصّمتُ هو الحاضِر الوحيد!
فجأة سقَطت ورقَةً مجهولة بالقُرب مِن مكتبي كسقُوط التّفاحة بالقُرب مِن نيُوتن حسب أساطير الأُوروبيين، فسارعتُ إلى أخذِها وقراءة ما كُتِب فيها:
الجاهلون فقط مَن يَعتمدون على الكلمات في تواصلهم حتّى يراهم غيرُهم، فاخترعوا نظرية ”تكلّم حتى نراك” للتستُّر على فشلِهم، وتقديس المتكلّمين، ثمّ تدنيس الصّامتين، فتُحاربون أهل الصّمت حين ينطقون، وتقتلونهم حين يَكتبُون، يُفجِّرون الحكمة برماحهم فتصرخُون، يُحرِّكون الرواكِد بمجادِيفهم فتَفزعون، فإذا رفعُونا نحن الأقلام لقّمتُم أسلِحتكم بالرّصاص، ثُمّ تكذبون، فتقولون للعامّة هزمنا أهل الشّر في معركة ”أقلام الرّصاص”، حتّى تُوهمونهم بأنّكم حملَة أقلام ولستُم تُجّار أوهام.
وأنا مصدوم مِن هول ما قرأت، اكتشفتُ أنّ المُراسِل هو ذلك القلم الذّي بالأمس يترصّدُ تحرّكاتي، والذي في الماضي كان يُناصرُني، والآن يَلومني وربّما يمزج لومَه ببعضٍ مِن التّحقير والإهانة!!
وكالعادة أتتني رسالة إلكترونية عاجِلة، فسَارعتُ إلى فتحِها عسى أن أُنقِذ حالي مِن هذا الظرف الملعون، فجاء فيها:
يا أيّها المُتكلِّم لا تتبِّع خطوات الشّيطان، فكتاباته وهميّة وكتاباتنا حقيقة، يُريد أن يُوسوس لك فيُخرِجك مِن فِردوس التكنولوجيا ورفاهيتها، فتَتعب وتشقى وتخلُد في نار تَلَظّى، يا أيّها المتكلّم إنّه يعِدك الشّقاء والفقَر، ونحن نتيح لك العِلم والفِكر، فلا تكن مِن الجاحدين.
وأنا في خِضمّ هذا الصراع الملعون، بين الظاهر المفتون والباطن المكنون، أقلّب ما أرسلَه هذا وذاك مِثل المجنون، سَقطت ورقةً أُخرى فوق مكتبي، فشرعتُ في قراءتها:
يا أيّها البشري، كلِمات تِقنياتك لا تُعجِزُنا، هل أدلّك على شجرةٍ، مِنها تَصنع الأقلام ومعرِفةٍ لا تَفنى، وبها تكن خالداً أبدياً في أزمنة الزيف والأوهام؟ يسألونك كيف خُلِق القَلَم، قُل: قبل أن يُرفَع بخار الماء، وتنزل أمطار السماء، وقبل أن يكون حرف النُّون، وقبل أن يتعلّم البشّر كيف يَسطرُون، كُنت أنا..
تعليق واحد