عبـادة الكتابة – الجزء الأول

تعبتُ مِن كتابة المقالات الطِوال..

قرّرتُ اعتزال هذه العادة المُتعبة، التّي فُرضَت عليّ بصفتها عبادة لابدّ مِنها، وخوفاً مِن ربّ الكتابة فكّرت في عُذرٍ شرعيٍّ أستعين به لأُراوغ به ذلك الربّ المزعِج، فأحصُل على رُخصةٍ فِكريةٍ أبدية..

في بادئ الأمر تحجّجتُ بغلاء ثَمن المداد، لكنّ ظنّي خاب وحُجّتي لم تَصمُد، فسُرعان ما أصبح سِعرُه في متناول الجميع، ثُمّ تحجّجتُ بارتفاع أسعار الأقلام، ومرّة أُخرى أفشَل في حبك حُجّة متينة، فقَد أصدرت المعابد التّابعة لربّ الكتابة مرسُوما فكرياً يقضي بإرسال قلمٍ واحدٍ أسبوعياً لكّل شخص يمتلك ثلاثة أصابع على الأقل، على أن يكون ثمنه مدفوعاً مِن طرف مكتبتها العامّة..

بعد تفكيرٍ عميق اهتديتُ إلى فكرةٍ جهنّمية، فقد قُمت بحرق جميع الأوراق الموجودة في منزلي، وأنا كُلّي يقينٌ مِن نجاح هذه الحيلة الخبيثة..

للأسف هذه المرّة أيضا فشِلَت خُطّتي، فقد وصلتني تعليمة رسمية موقّعة مِن طرف الملائكة الموكّلين بالإلهام يأمرونني مِن خلالها بضرورة الكتابة في جُدران غُرفتي الأربعة دون نسيان الأرضية وسقفِها!

انصعتُ للأمر كراهية وعكفتُ على ممارسة تلك الكتابة عدّة سنوات إلى غاية تلك اللّحظة التّي لم أجد فيها بقعةً ميلمترية واحدة تسمح لي بوضع نقطة، ففرِحت فرحاً شديداً وسُعِدت بذلك الإنجاز العظيم الذي سيَسمح لي بتقديم استقالتي رسمياً ثمّ اعتزال هذه العبادة الملعونة، ولكنّ..!!

وأنا في غُرفتي جالسٌ يائسٌ أنتظر صدور قرار رسميٍّ يقضي بإعفائي من التعبّد بطقُوس الكتابة، إذ بشخصٍ بهيّ الطّلعة يظهرُ أمامي فجأة حاملاً جهازاً غريباً وهو يبتسِم فأوجستُ مِنه خيفةً، لكنّه طمأنني وأخبرني بأنّه رسول ربّ الكتابة أتاني بواسطة تقنية ”الهولوجرام”، فأخذتُ مِنه تلك الآلة الغريبة وأردتُ الاستفسار منه أكثر، لكنّه اختفى!!

فتحتُ الجهاز فوجدتُ مُلصقاً جاء فيه: [انقُر.. انقُر باسمٍ يكون لك كلمة سرٍّ، ولهذا الحاسوب قولُ أمرٍ، فافتحه إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً]، فاتّبعتُ ما جاء في ذلك المُلصَق وأنا منزعجٌ مِن هذا الظرف الذّي وُضِعتُ فيه كُرهاً..

وصلتني رسالةُ تقول أنّها بريدٌ الكترونيٌّ جاء فيها: [إنّا نعلم أنّه يُحزنك وتُتعبك الكتابة صُبحاً وعشيّا، وأنّه يَضيق صدرُك بما يقولون، فخُطّ بقلمِك وكُن مِن الكاتبين]..

قرّرت أن أبلِّغ مرسِل الرسالة بجِديّة مطالبي التّي تحمل بين طياتِها غضباً عظيماً، فكتبتُ له:

أما ترى نفسَك سُلطان تارةً ملاكُ وتارةً أخرى شيطان؟ تقول فتأمُر وتصرُخ فتُطاع، وأنت تعلَمُ عِلم اليقين أنّي في ذلك اليوم جعلتُ من العصا التّي ضربني بها الكاهن قلماً، حتّى لا أطيع الأوامر أتي بعقلي كلّ الصغائر والكبائر، فكفّ عنّي أوامرك يا هذا، فإنّي سأكسر القلَم وأدّعي عدَم الفَهم ثُمّ أتلو صلوات الوهم، فأتدنّس فتتركُني وشأني..

ظننتُ أنّ رسالتي حاسمة ومِن دون شكّ لذلك المتطفِّل قاصمة، ولكنّ..!!

وصلت رسالة جديدة، فتحتها واليأس يكاد ينال منّي، فوجدتُ:

والنقر، وأصابعٍ عشرٍ، والحرف والسطر، ألم تر كيف فُعِل بالجاهل، الذي يُخلط الحابل بالنابل، والذي ربط أيادي الكُتّاب بالحِبال، والكاهن صعبُ المنال، الذي استعبد عقول النساء والرجال، فأرسَل عليهم ربُ الكتابة أقلاماً مِن نار، قلَمٌ نقّار وقلمٌ بتّار وآخر كذلك حفّار، كلاّ إذا نُقِرت الأزرار نقراً، ونشِرت التدوينات صفّاً صفّاً..

فجأةً ورغماً عنّي وجدتُني أقوم بالنقر على أزرار الحاسوب دون مقدرةٍ منّي على التّحكُّم في أصابعي، فأخذت هذه الأخير تُسارع بشكلٍ عجيب إلى رقنِ ما يلي وأنا مُندهِشٌ:

في تلك المدينة الزرقاء، دخَل ذلك الغريب التائه الباحث عن جُدرانٍ يكتبُ فيها بعد أن تمّ منعه من الكتابة في جدران بيتِه الداخلية والخارجية مِن طرف قوّات الأمن الفكري، فانطلق باحثاً عن جدارٍ بعيدٍ عن أعيُن أجهزة التفتيش في النوايا وأفراد العصابات الذين يرون أنفسهم حُراساً للمعبد، حتّى أتى قرية كُتِب في بابها الرئيسي: (هذا حسابك، أدخِل اسمك ورقمَك السرّي)، فلمّا فعل ذلك دخَل فوجَد فيها جداراً، كلمّا كُتب عليها تبدّلَت وجدّد، وكلّما هُدِّم أُقيم وأُعيد إلى سيرته الأُولى..

وأنا في غمرة الدّهشة الممزوجة بالتعجُّب والاستغراب اللّذان لبِسا رداء التوجّس والخشية، وصلتني رسالة إلكترونية جديدة جاء فيها:

بعد هذه اللّحظة لن تكون مضطرّاً إلى تدوين طِوال المقالات، فيَكفي أن تكون كتابتك وجيزة ومُوجِزة، تُترجِم أفكارك وتُرسِلها إلى عقُول غيرك!!

  اضغط على المربع لقـراءة | عبـادة الكتابة (الجزء الثاني)