عمليّـة تفكِيـرية داخل بــاص

يقُول مُسافر في الباص: لا القُرآن ولا أذكار الصباح، أُريد أن أبكي فلا شيء هُنا يُعجبُـني..

يقول السائقُ: انتظرِ الوصولَ إلى المحطَّةِ وابْكِ وحدك ما استطعتَ، فكلامُك يُزعجنـي..

يقول الجامعيُّ: وأَنا أيضاً لا شيء يُعجبُني، دَرَسْتُ الأركيولوجيا والجيولوجيا دون أَن أَجِدَ الهُوِيَّةَ، وهذا الشيء يُقلقُنـي..

يقول جنديٌّ: أَنا أَيضاً، أُقاتل دوماً جيُوش الوهم، ومع ذلك أنا أسير خلف الخرافة لأنها تُقيِّدُنـي..

يقولُ السائقُ العصبيُّ: ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا للنزُول يا كُفّار، فقَد دنَّستُم الباص يا فُجّار، وسأحرِمكم مِن فردوس ما بعْد المحطّة فكُفركم يَخـنقنـي..

فيصرخون: نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ، انطلِق واعذُر خطيئة تفكيرنا فكُلّ شيئ يُعجِبُـنا!!

فذكّروني فجأةً بقصيدة محمود درويش: (لا شيء يُعجِبني)..

فقُلتُ: أنْزِلْني هنا في محطّة الجحيم أنا لستُ مثلهم، وكذلك في هذا الباص لا شيء يعجبنـي..

صُراخ وصريخ وضوضاء، ولا أحد يَسمعُنـي..

أكمل الباص سفرَتَه، وكلّ مَن فيه بدأ يُفزعنـي..

توقَّف الباص في محطّة ”التّوبَة”، فركِب على متنِه خلقٌ كثير، وطبعاً هذا التّصرُف أدهشَـني..

أكملنا سَفرنا yلى أن وصلنا لمحطّة ”المُؤمنون الجدد” فركب أُناس عجمٌ لا يَكادوون يَفقهُون قولاً، فبدأ الأمر يُضايقـني..

صاح القابِض قائلاً: يا معشر المتقدّمين تأخّروا، وأنتم يا معشر المتأخرين تقدّموا، فحيّرني بيانُه لكنّه للأسف يُضحكنني..

صاح صيحةً أُخرى: يا معشر الرُكّاب، تقدّموا متأخّرين حتّى يَركب غيرَكم، أطيعوا فأنتم لا تحترمُوننـي..

لم يَفهمُه الرّاكبُون، فصاح كرّةً أخرى: [avance arrière]، أنتم تُغضبونني..

قُلتُ: ولكنّ كيف نقُـوم بهذه الأمر؟!

يقُول السائق مُبتسمًا: الأمر معلومٌ، والكيف مجهولٌ، والإيمان بـــه واجبٌ، والسؤال عنه بدعةٌ!!

قُلتُ: و لكـنّ!..

قام المُسافِر ومعه الجامعيّ، وبرفقتهما الجّنديّ بضربي، ومِن النافِذة والباص يَسير أجمعوا أمرهُم على أن يَرمونَنـي ليَتخلّصوا مني!!

فأخذت أصِيح: أفلتُوني فأنا نادمٌ، أفلتُوني، أنا مثلكم كلّ شيء الآن يُعجبني، سأصمُتُ حتّى نصِل إلى ما بعْد المحطّة فأعذُروني..

طلب مني القابض أن أدفَع ضِعف ثمن التّذكرة كتكفيرٍ عن ذُنوبي، ففَعلتُ لكنِّي قبل أن نصِلَ قُمتُ بتفجِـير نفسِي!!

[كُتِب على شاهد قبري مايلي: لا تَركبُوا أيّ وسيلة (نقلٍ) حتى لا تُدنِّسُوها بأسئلتكم كما فعل هذا المُجرم الذي قام بتفجير باصٍ مُقدَّسٍ كانت تركب على متنه عقول جامدة بريئةٍ ذنبها الوحيد أنّها كانت تُمجِّد (المنقُول)، وذلك باستخدام حزامٍ ناسفٍ يرتديه فوق رأسِه، فطوبى لهُم، والويل والجحيم لهذا الإرهابي الراقِد هنا].
جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version