عن الأشياء التي ما كانت لتحدث

أذكر أن هاتفي ذات مرة قاطعني باهتزازاته المتتالية معلنًا عن اتصال أثناء متابعتي لمسلسل ما، وأذكر أيضًا أنني في البداية كدت ألا أجيب، فبغض النظر عن أن الوقت جاوز منتصف الليل، وبغض النظر عن أنه كان اتصال من رقم مجهول، إلا أنني اهتديت لأنه ليس بالشيء المهم.

لكن شيء ما أخبرني بأن ماذا إن كان الأمر هام، وهذا ما اكتشفته بالفعل.. حياة أحدهم كانت متعلقة بهذا الاتصال، أحدهم كاد أن يفقد الأمل بأن هناك من ينجده لولا أنني أجبت على هاتفي، ضغطة زر أنقذت أحدهم ولولاها لعشت أنا بضمير يقتلني كل يوم.

وحين تمتلك عقلًا لا ينام ولا يكل فبالطبع لن يمر موقف كهذا مرور الكرام، أخذني تفكيري لأبعد من هذا بكثير؛ تذكرت أنني ذات يوم امتعضت وأنا في الثانوية العامة من دراسي للألمانية إلا أنني لولاها لما كنت حظيت بملاقاة أحدهم، تذكرت بعدها أول عام مر عليّ في الجامعة وكيف كان ثقيلًا ثم أتي العام التالي حاملًا لي صداقة جديدة غيرتني كليًا واستمتعت بكل لحظة عشتها فيها، تذكرت أيضًا كيف انتهت تلك الصداقة بغرابة شديدة وتحول كل الحب إلى اللاشيء قبل أن يرسل الله لي من يحاولون تخفيف ذلك الفراغ الذي خلفه من سبقهم.

تساءلت ماذا لو أنني في تلك المرة رحلت دون شرح، تخيلت صعوبة ما كنت لأعايشه لو أنني لم أعتذر حين أخطأت قبل أن أرحل، ماذا لو أنني لم أوضح وجهة نظري حين دار نقاش ما، ولم أخبر أحدهم بأن فعلته تلك سمعت شيخًا يقول أنها حرام.. تراه لم يعد يفعلها الآن بعد أن علم؟ تراه كان ليتركها لو أنني لم أخبره؟.

تذكرت عدد الرحلات التي عزمت على ألا أقوم بها ثم غيرت رأيي في اللحظات الأخيرة وصدقًا كنت لأندم لو لم أفعل، تذكرت عدد المرات التي دعاني فيها أصدقائي للنزول معًا فرفضت في بادئ الأمر ثم غيرت رأيي كعادتي واستمتعت بتغيره حقًا.

كنت أعود في كل مرة أجلس منطوية في ركني الخاص متسائلة “ماذا لو لم أفعل؟” كاد يقتلني ذلك السؤال.. بالتأكيد كنت لأضيع لحظات تستحق الندم، وبالتأكيد قد أضعت بعضها في زحام الحياة، بالتأكيد فاتني شيء ما قد دعيت إليه لأنني لم أغير رأيي، وخذلت أحدهم حين لم أجب على اتصاله، خسرت شخصًا لأنني لم أعد التفكير في صبري عليه، وخسرت آخرًا لأنني لم أعد التفكير قبل أن أتركه وأمضي، حتمًا خسرت جزء في كل مرة لم أغير فيها رأيي.

ولكن رصيدي من المرات التي تداركت فيها الأمر وغيرت قراري يشفع لي، حتى أعتقد أنني صرت أتخذها كقاعدة عامة في حياتي، “قرارك الأول تجاهليه تمامًا”.. هكذا صرت أخبر نفسي في كل مرة أعتزم فعل شيء ما، فقد ملئت خزانتي بخسارات أحاول جاهدة ألا أزيدها.

ولكنني مؤخرًا أدركت أن بني آدم جميعًا لابد وأن يفوتهم شيء ما في مكان ما، وأن لا جدوى من سباق الزمن الذي حاولت دخوله منذ فترة، حتى قراري الثاني الذي دومًا ما كنت أميل إليه أدركت أنه بدوره أضاع عليّ شيء ما، صرت أعلم أن هناك مقابل لكل ضحكة اكسبها وضريبة تُدفع لأحظى بوقت جميل، صرت متيقنة أنني دومًا لابد وأن أترك شيء مقابل شيء أخر، أقايض الدنيا لأحصل على لحظة أخال أنها ستسعدني أكثر من قبلها.

أوقفت جري وملاحقتي لكل ما يحصل من حولي قليلًا.. تنهدت وأنا أرتشف أخر ما تبقى من قهوتي الباردة وغفرت لنفسي كل ما أضعته عليها بقراراتي السريعة، فالحمد لله على كل ما كان لن يحدث لولا أن ألهمنا الله في اللحظات الأخيرة.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version