فاجعة طنجة .. “من سيُضمد في آخر الصيد جرح الغزال”؟
ثمان وعشرون نفسًا، في واضحة النهار ترسم بحشرجة الموت لوحة آخرى من لوحات مغرب الحقوق التي لن تشرق أبدًا، ونتأكد أن المطر في هذه البلاد لا يحيي الأرض بقدر ما يميط النقاب عن “سرية” حياة المستضعفين المنسيين في عزلة القسوة وتراجيديا الفقر والاستغلال..
كم من جهاز أمني في المغرب، كم من واشٍ و”مقدم” لا ينام في البلاد، ومن عيونٍ لا تغفل حتى تنفد إلى حميمية الناس في الغرف المغلقة، الغرف التي تعد سريةً فعلًا، فما بالك بمعمل نسيج هدير آلاته يصل مكتب القائد والباشا وكل مسؤول، أن يكون سريًا؟..
أتعرف معنى أن يموت 28 مواطنًا في بلادهم، وهو الرقم الذي يقارب عدد المهاجرين غير النظاميين في رحلات الموت؟..
معناه أننا كلنا مهاجرون “سريون” في قارب موت يتقمص هيئة وطن، قارب تلاطمه لجج الفساد، واللامبالاة والمحسوبية والزبونية والذلقراطية..
معناه أن حياة الإنسان في هذه البلاد القميئة صارت أرخص من حبر البلاغات..
ومعناه بخلاصة؛ أن الجميع مسؤول ومتواطئ في كتابة سيناريو هذه الفاجعة، من رئيس الحكومة إلى قائد المقاطعة، ومن رؤساء الأجهزة الأمنية حتى أصغر “مقدم” في ذلك الحي الموبوء..
هؤلاء الذين أفشت الفاجعة سرية حياتهم، يرفعون اليوم شهادات قبورهم علامات استفهام عن مصير عشرات التحقيقات التي طمرت، وغمرها غبار النسيان في الأدراج المظلمة..
هاته الأرواح التي أزهقت بكل برودة اللامسؤولية، كتبت آخر فصل من حكاية “المواطن المنسي” ذلك المواطن الذي لا ذكر له في كُتب الكتبة الكذبة، وقاصات الأخبار الزائفة، لقد سطروا بأرواحهم الفصل التراجيدي في الحكاية، الفصل الذي يعلنون من خلاله “لا وطن لنا، وطننا الوحيد هو القبر”..
فاجعة طنجة | “من سيُضمد في آخر الصيد جرح الغزال”؟
لقد رحلوا، هكذا ببساطة، تلك البساطة التي كتبت بها عبارة “مصنع سري”، بأحد المكاتب المخملية التي لا تعرف ما يجري خارجًا سوى ما يسيل لعاب السجان والجلاد، رحلوا وخلفهم سيل هادر من الأسئلة التي لن تجد الأجوبة المقنعة، سوى الجواب الأثير “فتح تحقيق”، وأول الأسئلة الذي يقفز إلى الأذهان “أين وصلت التحقيقات السابقة؟”..
إذا كان الموت الذي غيب هؤلاء في غمرة الماء، فإن القتل الذي نفى قيمتهم كإنسان، قائم على “سرية المصنع”، السرية التي لا معنى لها في المغرب، فالكل يعرف أن البلاد مرآة تعكس كل شيء، وأنها كذبة ثقبت البالونة التي كانت تنفخ بالكذب، وزادت النفخ في بالونة اللايقين..
مأساة طنجة، جريمة إنسانية لا ذئب في البلاد بريئ منها، فهي ثمرة نظام بنيوي قائم على اللامحاسبة، يوضح بشكل كبير أن النظام الأمني لا تهمه حيوات الناس، بقدر ما تقض مضجعه أصوات الحق التي بحت بها حناجر الصحفيين البسطاء والمعارضين المساكين، والذين هم مسيجين في برودة الزنازين، بينما القتلة الذين ذبحوا الوطن ومثلوا بجثته لا زالوا يتجولون طولا وعرضًا ينفشون ريشهم كأنهم ملوك البلاد..
لا ضوء يلوح في آخر النفق، والعتمة اكتمل سوادها اليوم حين اتشح الوطن بالسواد حدادًا على لقمة عيش مغتالة، وحيوات مفقودة ظلت لا مرئية حتى عبرت البرزخ غرقًا في كأس الفساد التي فاضت من “معمل سري” كان للنسيج، بينما حقيقةً كان ينسج أكفان الضحايا، ضحايا خرجوا من دائرة الظلام في الحياة إلى دائرة الظلام في الرفوف..
الموت هو الحقيقة الثابتة في هذه الفاجعة، أما البلاغات والتعازي، فهي بروتوكول سياسي، وكذب ديبلوماسي، لا غير، فالحزن المصطنع لن “يضمد في آخر الصيد جرح الغزال؟”..