مدونات أدبية

فتاه أسمَوها عليه

ليس بفتى بارعاً في العشق غاوياً من حوله بكلمة أو نصف كلمة، ولا بذاك الفتى المهووس بتلك الجميلة وتلك، فقيس شاب ذو طموحات سياسية كبيرة حيث شارك في كافة الموجات الثورية المناهضة لحكم الديكتاتورية ولحكم الشخص الواحد، أمضى 4 أعوام من شبابه في تقلبات حزبية بين الاشتراكية إلى الإسلام السياسي الوسطي إلى أقصى الليبرالية، فانحصرت حياته بين أعماق السياسة الحزينة الأليمة لبلاده وبين إدمان قماشة بيضاء جلبت له الحزن أكثر منها الفرح.

قيس عاشق صامت متفرد بحاله المعقد لأوقات كثيرة، فعقله يكاد ينفجر فلا ينشغل سوى بالسياسة والسياسة، فإن سألتني عنه سأجيبك بأنه ليس إلا شخص منعزل كاره لحياته، كثير التفكير والثرثرة بإيدولوجياته السياسية الثورية عن الحرية والديمقراطية، سيجعلك تمل من أحاديثه حول صراعات أبدية بين الرأسمالية والاشتراكية!

تمرد قيس لم يكتف ثورياً بل شمل تمرده على البرمجة ولغاتها التي لا يهواها بقدر الدراسات الفلسفية السياسية، ولكنه يحاول قدر الإمكان الجمع بينهما ذاتياً.

اختلفت أبيات شعراء الجاهلية في نقد بعضهم البعض، ولكنهم توحدوا حول قيس فقالوا انطوائي لا يجيد الفصاحة والبلاغة في الكلام والمجاملة، كل ما يجيده الانطوائية والبكاء كالطفل على مقتل طفلة في أقصى الشام على يد ذاك الأسد ووهؤلاء الروس.

تعاقبت الأيام والسنوات لقيس حتى العام الثالث إلى أن رأى أموره العليا لأول مرة، كشاهد عيان لم أعلم حينها شعور قيس، ولكن أحسسته في غاية الذهول والدهشة وكأنه لم يرى فتاة في حياته من قبل! ماذا يا قيس؟ فتاة مثلها مثل غيرها! ماذا بك!

“لم تكن يوماً مثل غيرها يا صديقي!.. فهي مختلفة في كل شيء.”

في الواقع لم أجد أي قناعة حول إجابة قيس!.. لا أرى أي اختلاف من الذي يتحدث عنه، لم أجد سوى إحمراراً لوجه قيس وتباطؤ في حركة لسانه كلما تحدث عنها، عن أي اختلاف تتحدث عنه؟!

مرت الأيام والليالي وسريعاً ما تحولت كراهية قيس لحياته الجامعية إلى مرحلة عشق مدوية وكأنه يريد الذهاب للجامعة كل دقيقة، فلعله يلمح تلك المختلفة صدفة هنا أو هناك.

كصديق ملازم لقيس في كل مكان يذهب اليه، لاحظت أشياء كثيرة يفعلها وقد أصابتني بالدهشة، فلم يترك شيء واحد لم يلاحظه في تصرفات تلك الفتاة.

شعرها الكثيف الطويل الذي دوماً ما يغطي عينيها فتُسرع من الحين للآخر بإزاحته يميناً ويساراً لتتمكن من الرؤية، أصابعها التي لا تمل من الإمساك والشد لأطراف قميصها أو أياً كان ما ترتديه، وكأنها عصفورة تأخذ وضع الطيران.

مع تعاقب الأيام أيقنت بأن انجذاب قيس لتلك الفتاة لم يكن أبداً لجمالها أو مظهرها، حيث يوجد الأجمل منها الكثير ولا أجد أي انجذاب من قيس اتجاههم، ما أستطيع جزمه بأن قيس وجد اختلاف من نوع آخر لا أستطيع أن أراه في هذا الوقت الراهن.

من الممكن أن يكون اختلاف عقلياً في التفكير عن عقول باقي الفتيات وتفكيرهم غير المقنع كثيراً من الأوقات بالنسبة لقيس، حيث أن نظرته متعالية أحياناً فيما عن حوله وكأنه يحتقر كل من حوله كبار وصغار، ونتيجة لذلك ها هو أمضى أكثر من عامين في الجامعة ولا يمتلك سوى صديق أو اثنين بالكثير!

في كثير من الأوقات أشعر وكأن قيس يسير بين أرجاء الجامعة كالمجنون المتلهف بعينيه باحثاً عن تلك الجميلة المختلفة متمنياً رؤيتها لثواني معدودة، فلا يترك مكان دون النظر إليه وكأنه صقر يبحث عن فريسته!

يومه أصبح مليئا بالتقلبات، فيقضي ساعات طويلة يتابعها في حالة تأهب وصمت وإعجاب رهيب، يرى ما تنشره وما تعيد نشره هنا وهناك.

“مختلفة فيما تسمع، مختلفة فيما تكتب، مختلفة في كل شيء يا صديقي!”

ها هو قيس يتجاوز مرحلة الخجل والصمت، وإذا به يفتح حديثاً معها بنقاش بسيط حول دورات تعليمية خاصة بالجامعة، ولأكون صادقاً فيما أكتب لنسميه حوار مصطنع أو كذبة بريئة صنعها قيس كحجة ليتحدث معها ويتعرف عليها أكثر وأكثر، فقيس أمضى أكثر من ثلاث شهور في صمت ومتابعة بحذر وإحراج إلى أن قرر الدخول في حديث معها مباشرة، لا أعلم إان كنت كاذب أو لا، كل ما علمته حينها أنني أردت أن أتعرف على تلك الفتاة المختلفة التي تتحكم في عقلي حرفياً.

“لست نادماً على مراسلتي لها، لست نادماً على شيء!.. حياتي بالفعل غير مستقرة، لا أستطيع السير بداخل الجامعة بدون الالتفات لها، لست قادراً على عدم الشعور بالفرحة والبهجة حين أراها صدفة، لست كاذبا ولا مبالغاً في وصفها أو الحديث عن انجذابي لها، لست قادراً على إقناع عقلي وفضولي بالتخلي عنها ولو للحظة”..

كما يُقال “لقد أصابك عشق”..، إلا أن الوضع مع قيس اختلف قليلاً، حيث أصابه تجاهل منها فلم تعطه أي اهتمام في رسائله وكأنها شعرت منذ اللحظة الأولى أنه مخادع يريد أن يفتح معها الحديث لمجرد الحديث مع فتاة كغيره من شباب هذا الجيل! ، لم تسمع له واكتفت بمشاهدة حروف كلماته وهي تُكتب علي شاشة صغيرة.

لم أجد طوال حياتي قيس في حالة حرج وغضب كهذه، وكان شخصاً ما طعنه في شرفه، فتلك المختلفة الجميلة رأته كشاب يضايقها بالحديث والثرثرة بالكلام، فسرعان ما اتخذ قراراً نهائياً بعدم حضور أي محتوى علمي يجمعهما معاً!.. ولكن لاحقاً تراجع عن هذا القرار لأسباب لا أعلمها.

“لماذا تفعلي ذلك معي؟ لماذا تتجاهلي حديثي؟! لماذا تعمدتي إحراجي بصمتك وتجاهلك؟!”

رغم كل ما حدث لقيس من متاعب وضغوطات وما سببه لنفسه من إحراج كبير، ولكن لا أعتقد أنه سيقوى على عدم الاهتمام بتلك الفتاة، لا أعتقد أنه يراها مجرد فتاة سينساها بعد محاولات عديدة للفت انتباهها، كما أعتقد أنها سيطرت كلياً على تفكيره وما زالت تسيطر، ولا أعتقد أن لديها رغبة كرغبة قيس في التعرف عليها وعلى شخصيتها!

“أخيراً، جميع افتراضاتي بُنيت على نظريات منطقية أحاول خلقها، محاولاً مسايرة عقل قيس ومعرفة سر انجذابه لتلك الفتاة الجميلة المختلفة”.. صديق قيس

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

أظهر المزيد

محمد الدميري

كاتب وناشط مصري، طالب بكلية الهندسة وحاصل على دورات صحفية وإعلامية من جامعة ولاية ميشيغان الأمريكية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى