فلتحن يا والدي

كان شعره أسودا لامعا وقامته طويلة شيئا ما، يلبس بدلة رمادية وقميصا أبيضا، بشرته قمحية اللون وعينينه صغيرتين بحجم الصدفة.. هذه تقريبا هي الصورة التي تحملها مخيلتي له، أتذكر لمساته الحانية وهو يداعب شعر رأسي في ذاك الشارع، كنا قد ذهبنا للقائه، لا أعرف لماذا كان هذا اللقاء هكذا في الشارع، بين الناس وكأننا غرباء لا ينتمي كلينا للآخر..

لم أكن أنظر إليه حتى، كنت صغيرة شاردة بعيناي في المارة أو ربما كنت أراقب بائع الحلوى المقابل لنا على ما يبدو، مر الوقت سريعا لأحس به يقبل خدي ويودعنا في جو بارد كئيب يخلو من أي عاطفة تذكر، بالطبع لم أكن لأحس ذاك البرود في المكان حينها لأني كنت صغيرة.. صغيرة جدا على استيعاب ما يجري..

الآن بِت أعرف، بِت أحس، بت أستطيع قراءة نظراته ولمساته في ذاك اليوم.. وكلما تذكرت تفاصيلا أكثر كلما زدت نفورا من ذاك اللقاء وذاك الشارع وتلك القبلة..

توالت اللقاءات بعدها مرتين أو ثلاث لا أذكر حقا، وكانت بنفس الطريقة مع اختلاف الشارع ولون القميص! لكن أذكر لقاءا جمع بيننا في بيت العمة، كنت ضيفة لديها لبضع ليال، كانت تقيم حفلا بمناسبة تخرج ابنها وشاءت الأقدار أن أكون حاضرة آنذاك، لتجتمع العائلة بأكملها في ذاك البيت.. لقد أتى الجميع! وكان هو بينهم، أيضا كنت صغيرة لا أستوعب شيئا..

أجلسني بجواره تارة وعلى ركبتيه تارة أخرى، يبتسم لي بحنان خال من كل معاني الحنان، كنت بريئة لا أجيد قراءة نظرات من شهدوا على معانقته لي وطببطته، كنت أراهم ينظرون إلي لكن لم أكن لأستطيع ترجمة نظراتهم أو تفسير شرودهم في منظرنا..

الآن بِتُ أعرف، بت أستطيع قراءة نظاراتهم تلك، وشرودهم ذاك، لأسخر من حالي وأستوعب أنه في ذاك البيت وفي تلك الحفلة اجتمع كل جلادي، كل شخص أذى الطفلة التي بداخلي، كل من شهد موتي مع أول صرخة لي بعد الولادة، كل من في ذاك البيت دفنني ودمس وجودي من حياته بالمرة.. هه وأنا كنت كالغبية بينهم لا أعلم ما يحدث..

أضحك كأي طفلة يتيمة حظيت بجو عائلي بهيج، أضحك كأي طفلة يتيمة حظيت بعطف رجل بعمر والدها.. يداعبها.. يقبل خدها ويسألها عن أحوالها، أضحك كأي طفلة يتيمة حضيت باهتمام ضيوف الحفلة وتفاجئهم من رؤيتها بينهم، أضحك وأضحك لأستوعب أخيرا أني نفسي كنت شيئا يدعو للضحك، بحجمي ذاك وبغبائي وسذاجتي..

لكن الآن بِت أعرف أن ذاك الرجل هو نفسه والدي.. وتلك اللمسات والقبل كانت محاولات زائفة لإظهار أبوته المزعومة، لم أكن أعرف، وأنا الآن التي أتحسر لعناق منه أو قبلة حنونة، لم أكن أدري أنني كنت بين يديه، أنه قبلني وأنه ضمني، وأنه تركني…

ااااه.. آهاتي كثيرة جدا، شارك في عزفها الكثير من الناس، لتصبح مقطوعة ألم أشجن بها على حالي كلما ضاقت بي السبل، وكلما تمرد جزء من روحي بحقد مرير، ألجمه بآهة ألم وعجز من ليس له حيلة، ربما لو عاد بي الزمن إلى الوراء ما كنت دخلت ذاك البيت، وما حضرت تلك الحفلة، وما كنت لأدعه يقبلني أو يلمس شعري بتلك الطريقة المزيفة!، ما كنت لأسمح بأن نلتقي في الشارع ليراني ويعطف علي بحنان معطوب، ما كنت لأضحك بسذاجة بين ذاك الجمع السيء من النفوس الظالمة..

والدي العزيز، لقد كبرت، تعال لتلاقيني الآن ولتداعب شعري ولتهديني تلك القبلة على خدي، أما عاد ينفع هذا الآن؟ ألم أعد تلك الصغيرة البريئة التي لا تفقه شيئا من حولها؟..

ما الذي تغير؟ ألا تريد لقائي سرا في ذاك الشارع، أن تجلسني على ركبتيك الآن، ما الذي تغير أخبرني؟

هل تخشى أن أرفضك وأن أتمرد عليك، أم أن أسألك عفوا من أنت؟.. حسنا لا أعدك بأني لن أفعل.. فأنا لا أذكر شكلك جيدا..

لا عليك يا والدي، لا تخشى شيئا، فأنا أريد تلك القبلة فعلا، لكن ماذا أفعل؟.. لا أنا أستطيع المطالبة بشيء ولا أنت تريد منحي شيئا، أو ربما لا تستطيع فقط، لا أدري عنك حقا لكن أنا متأكدة بأنك تريد نفس الشيء، أحس بذلك كثيرا.. فلتقترب.. فلتحن يا والدي..

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version