يقر علم النفس بتفاوت تفضيل الفصول الأربعة بين الأفراد، وفي حالة كونه الربيع فهذا يشي بدلالات النشاط والإخلاص في العمل والود تجاه الآخرين علاوة على الاعتزاز بالنفس، وفي ذلك انعكاسات نفسية ومزاجية متعددة، والربيع بناء على تلك الرؤية هو المعادل الموضوعي للطفولة وهو الاستنساخ الجميل للماضي.
وقد جبلت النفس على الميل الفطري للجمال والإحساس به، وبالتالي تلقي بظلالها على السعي لتفسير السلوك البشري إزاء محاولة اقتناص الزمن في أعمق لحظات زهوه الجمالي، عبر إيقافه أو لنقل تجميده لبرهة ما ومن ثم التقاط الصورة التوثيقية، وهي بهذا التوصيف رغبة أزلية ترجو حيازة الجمال، ولعل القصة الواقعية التالية تبين المغزى، فمؤخراً توفيت والدة زميلنا رحمها الله، فذهبنا للعزاء بمعية الرفاق، وما إن وصلنا حتى شملنا الانبهار وغشيتنا الدهشة جراء موقع المقبرة في قمة جبل ذي إطلالات ساحرة على سلسلة تلال غاية في الروعة، فقفز من فوره لأذهاننا بيت أبي الحسن الأنباري:
علو في الحياة وفي الممات … لعمري تلك إحدى المعجزات
وفي واقع الحال وجدنا أنفسنا في خضم اختبار عسير واقعين بين نقيضين يستوجبان الإحساس برهبة حضور الموت، والإحساس بمكمن الجمال في اللحظة نفسها، فتطوعت بمكاشفة زملائي في الإشارة إلى أن الحدث جلل، ولكن لا بد من توثيقه على الأقل عبر الصورة، وفاجأني بأن ما لديهم استنساخ مما لدي، ولكن العزاء بظروفه القاهرة وضع حدا لطموحاتنا!
المعذبون في الأرض أمثالنا يبحثون عن نصر سياسي، وإلا فسيتجهون صوب المعادل الموضوعي متمثلاً في انتصار الأرض باخضرارها في أروع حالات الإشراق “وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء”. الأنعام (الآية: 99)
فالربيع حالة من التسامي على جراحات الواقع، وهو في اللحظة نفسها سعي حثيث لصناعة النصر المنفتح على تفسيرات التغيّر الطبيعي ولا ضير إن طال السياسي، وفي ذلك اتساق بين ما تحمله الطبيعة من جمال فاتن، وما ترنو إليه النفس من جماليات الدنيا، وسرعان ما يتكشف هذا في الثلث الأخير من آذار ومطلع نيسان، عبر تزاوج مفردات الطبيعة والحياة في الآفاق الرحبة، والتي تفضي إلى الراحة النفسية، وهذا ما أورده البحتري:
أتـــاك الــربـــيـــع الطـــلق يختال ضاحكاً … من الحسن حتى كاد أن يتكلما
والمراد بالكلام هنا صورة تطبيقية تصف المشاهدات على أرض الواقع، ويتبدى جمال الطبيعة كما في رائعة عبد الرحمن الداخل:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة … تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
ولك أن تتأمل مكمن الجمال في جزيرة سوقطرى ودلتا نهر النيل ومغارة جعيتا وبلدة عيون السمك ووادي قادشا الممتلئ بغابات الأرز في لبنان، ووادي رم والمدينة الوردية في الأردن، والجبل الأخضر في عمان، والصحراء الكبرى في الشمال الأفريقي وكسب واللاذقية والكفرون في سوريا، ومدينة إب اليمنية، ومدينة قالما الجزائرية وإفران وأوريكا المغربيتين، وعليه تحلو القراءات الجمالية للجغرافيا منفحتة على عدة تأويلات، تسبب انتعاش الروح والنفس معاً..
في الحديث النبوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنظلة: “ولكن يا حنظلة ساعة وساعة”، وفي هذا دلالات على أن النفس قد تميل إلى الراحة وما يأتي في سياقها، فالربيع هو أجمل تذكار من الماضي الجميل الحاوي في ذاته البعد الزراعي النبيل الذي ورثه الآباء عن الأجداد، وإن كانت الغيمة التي تمر بها الأمة حجبت وضوح الرؤيا وترسخ لدى الكثيرين مفاهيم نقيضة معاكسة تماماً، وأبعد ما تكون عن ملازمة الأرض في بعدها الفطري، وذلك التصور وياللحزن يخدم الفكرة التي فرضت علينا، والتي تتمحور حول كون الشرق لا يصلح إلا للزراعة، وهذا افتراء ما بعده افتراء، وترتب على ذلك أن ضعنا ضيعة الأيتام على موائد اللئام بين هويات ثلاث الزراعة والتجارة والصناعة، فلم تعد سفننا ترسو على قرار.
يقولون بأن جزيرة العرب كانت امتدادا لغابات وآجام كثيفة، وإنها ستعود يوماً كما كانت في الماضي، خضراء تحفل بزراعة الأشجار المثمرة والحرجية واللاحرجية وأشجار الزينة، تماما كما هو الحال في تونس الخضراء، التي تحوي ما يزيد عن خمسة وستين مليون شجرة زيتون.
إن السعي لتفكيك فلسفة الربيع يبدأ من عدة محاور فعلى سبيل المثال يأتي الربيع استنساخاً لطموحات الطفولة، أو لنقل تأتي فضاءات الربيع وامتداد الآفاق أمام ناظريك بمثابة فسحة الأمل وبالأخص لكبار السن، والمحور الثاني ارتباط الربيع بالحيز الجغرافي، فسطوة مصانع الإسمنت يؤازرها انتشار الشقق السكنية والمشاريع العملاقة، كلهن يأتين على حساب الأرض الخضراء، لذا كنت فيما سبق أصف مرابع الطفولة في جبلها المطل على المدينة الصناعية بالجبل المخادع، وإن كان يرمز لموسم الربيع بكل تجلياته وأنعم بها من أيام، ومن ذلك فلسفة الدفء بعد البرودة، والتجدد بعد فصل البيات الشتوي،
بمعنى الحركة بعد السكون، أما الفرح والبهجة الملازمين للدفء الحنون في ظل حضور الفراشات التي تلهم حتى أقسى القلوب، وبالأخص في حالة سيادة اللون الأخضر بانتشار عطور الزهور، كما أن سيل التفاؤل والأمل يتمثل في ارتداء الأرض لثوبها الأخضر الجديد، كإعادة للولادة وتسويق خارطة الزينة عبر الأقحوان وشقائق النعمان، وانتشار أعشاش الطيور المهاجرة، وبروز طيور السنونو بعيد الاعتدال الربيعي.
أما الفلسفة الأشق على النفس، فهي التذكار الجميل بفردوس الأندلس درة التاريخ العربي، ففقدانها ولد حسرة، زاد من وقعها ضياع أندلسنا الثانية فلسطين، لذا صدق للجواهري يوم أن قال: سيلحقون فلسطيناً بأندلس ويعطفون عليها البيت والحرما.