في التغيير الرمزي للنظام السياسي التونسي

التفكير في أزمة النظام السياسي التونسي وعجزه على خلق مقاربة ديمقراطية جديدة، ما بعد استبدادية متعددة الأسباب التاريخة منها والثقافية، وتمتد إلى عمق بنية الثقافة السياسية التونسية التي حدد تكونها عاملان؛ التاريخي المرتبط بنظم الاستبداد البورڨيبي رغم تمشيه التحديثي ثم بن علي لاحقا، والثقافي والنفسي المرتبط باللاشعور الشعبي السائد الذي يعيش في عزلة عن النخبة قائدة التغيير، وينبني على معايير ثقافية للدين (كهوية وممارسة اجتماعية)، اليد الطولى في تكوين مرجعيته الأخلاقية والثقافية.

الموازنات الجديدة داخل الساحة السياسية التونسية في مسار تغير كبير جدا. أهمها ضعف الإسلاميين المرتبط بالوضع الدولي المعادي لهم وتحرك ماكينة النظام القديم بسرعتها القصوى الذي بدى جليا في التمرير المتعسف لقانون المصالحة الإدارية الذي يمثل مسألة مصيرية للماكينة الييروقراطية الماسكة بدواليب الدولة، والتي تجد في حزب نداء تونس ممثلها الأساس..

هذا الوضع المترهل وشديد الهشاشة المترافق مع تهميش القوى السياسية المعارضة وعجزها الحالي على عكس الهجوم بآليات ذات فاعلية (عدى الاحتجاج والدعاية البرلمانية ضد النظام)، دفع الباجي قايد السبسي إلى مواصلته التمشي الهيمني الذي بدا أخير في إطلاق اللغط حول ضرورة تغيير النظام السياسي.

تصريح الرئيس أنّ ”الوقت حان لتقييم المنظومة السياسية الحالية وتدارك نقائصها، وتجاوز المطبات التي تضمّنها الدستور”، يقول أن تحويل موازنات الهيمنة أصبح ضروريا. فبعد هرسلة حركة النهضة المتواصل ودفعها لتقديم المزيد والمزيد من التنازلات (الذي سبب أزمات داخلية حادة أغنت الخلافات الداخلية القائمة بطبيعتها)، آن الأوان على ما يبدو لتغير مجرى اللعبة من أساسها لتتلائم مع موازين القوى الحالية عبر منح الباجي قايد السبسي الصلاحيات الرئاسية التي يحتاجها؛ باعتباره المعمر الحقيقي والفعلي على سلطة الدولة العميقة وحزبه المنهك من الانشقاقات.

قام رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي بزيارة إلى مدينة سوسة بالخلفية الرمزية لهذه المحافظة التي تمثل مركز نفوذ النظام السابق ومدينة الرئيس المخلوع نفسه زين العابدين بن علي. تم التحشيد للزيارة بطريقة خلقت صورة شبيهة بل ومطابقة لزيارات بن علي وسط الحشود الكبيرة المهللة للرئيس. يمكن النظر إلى هذه الصورة من مستويين:

الأول، الباحي قايد السبسي يسعى لتقديم صورة مكثفة كونه رئيس بكامل الصلاحيات لخصومه وحلفائه على السواء. وما اختيار مدينة سوسة إلا لإعطاء هذه الصورة الصاخبة وسط الحشود المهللة لحاكم فعلي لا لرئيس بصلاحيات فخرية. وكأن مسألة تغير منظومة الحكم في مستواها الشكلي (الصلاحيات) مسألة أمر واقع لا يمكن بحال دمجها داخل السجال السياسي.. إنها رسالة واضحة جدا لحركة النهضة الحليف اللدود.

جانب آخر يتعدى شكل الحكم الحالي نحو المنظومة المسيطرة بالذات. فالسلطة (والتعبير للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو) ليست شيئا متموضعا في مكان ما، وإنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة، ونجد أن كل بنية العالم الاجتماعي، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، من أجل فهم آليات الهيمنة والسيطرة…

التأثير السلطوي لهذه الصورة من الحكم ذات البعد الرمزي شديدة الخطورة والأهمية، فهي تستهدف البنية الشعورية والنفسية للشعب في إطار الهدف الكبير آلا وهو الإخضاع وخلق الامتثال؛ فهذا التصوير الرمزي لشكل الحكم هو عملية مطابة رمزية مع الثقافة السياسية السائدة التي تحتوي في داخلها كل أشكال خضوع السلطوي لنظام الحكم المسيطر ولم تنجح لعدة أسباب في خلق تكوين نفسي جديد علماني وديمقراطي.

يمكننا أخيرا القول، أن الباجي قايد السبسي نجح رمزيا ولو في البدء في تغيير النظام السياسي الحاكم عبر هرسلة رمزية للوعي الشعبي الذي لم يخرج بعد من صورة النظام الشمولي وعقلية قبول الاستبداد. وأبدا وهذا هو المهم أن لعبة السلطة الفعلية بيده هو لا حركة النهصة وأن يمضي بثبات نحو الأبعد.. إنه تغير رمزي لنظام الحكم في تونس.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version