في عيد الاستقلال: عن المتّهمين في حبّ تونس

“المترو كالعادة كلّما استشعرت إدارته أنّ المناخ قد اعتدلت حرارته، تُخضع سكّته الحديديّة لأشغال إصلاح وإعادة تهيئة، فيتعطّل خطّ سيره بشكل مفاجئ ودون اعتبارٍ لأهميّة إعلام المواطنين مسبقًا بالأمر.

اختارت كغيرها أن تنزل من المترو المتوقّف منذ أكثر من 15 دقيقة وأن تسير مع الجموع نحو جامعتها.. جامِعتُها التي لازالت تحاسبها على التأخير والغياب وتحرمها من حقّها في اجتياز الامتحانات في موعدها لهذا السبب.

لم تلعن الظروف والمعيشة والعاصمة والجامعة.. فقد سئمت اللعنات والتذمّر. كانت هادئة على غير العادة.
تسير الجموع بين مسرع ومحبط..

فيتعالى فجأة صوت من المبنى القريب: “حماة الحمى يا حماة الحمى.. هلمّوا هلمّوا لمجد الزمن”، ورغم أنّ الأمر لم يكن مفاجئ، حيث يعلو نفس النشيد في نفس التوقيت في جميع المعاهد والمدارس بصورة روتينية معتادة، إلا أنّها فوجئت به وانتبهت للرعشة التي أصابتها عند سماعه منذ 6 سنوات، كانت هذه المرّة الأولى التي تسمع فيها التسجيل المدرسي لهذا النشيد دون أن تكون مضطرّة للاختباء في أحد الأقسام أو للتستّر وراء عمود كهربائيّ أمام المعهد.

هي لم تحبّ هذا النشيد يوما.. رغم أنّها كانت تحبّه شعرًا ومعنَى وتحفظه عن ظهر قلب.. ولكنّها لم تكن تحبّه.. كما لم تكن تحبّ تونس.. رغم أنّها تحبّ كلّ شيء فيها… لقد كانت فتاةً متحجّبة.

وكان هذا سببا كافيا لتقصى من تحيّة العلم منذ سنة 2006 وكان هذا سببا كافيا لتعتبرها الدولة منذُ ذلك الحين مواطنة لا وطنيةً بالمرّة فتحرمها من جميع حقوقها، حتّى حقّها في التعليم والحريّة.

ماذا سوف يقدّم للبلد شخص قد وضع غطاء على رأسه؟ خاصّة وأنّ هذا الغطاء لا يشبه كثيرا تلك الأغطية التي يضعها الأبيض الغربيّ؟… لا شيء.

تحيّة العلم الصباحية لم تكن تعني فقط أنّ العلم سوف يرفرف أعلى معاهد البلد، بل كانت كذلك تعني أنّ مديرة معهدها ستكون حاضرة لامحالة لتقدّم للعلم حقّه من الاحترام.. ولتقدّم للوطن حقه أيضا في القصاصِ ممّن “خانوه” من خلال البحث عن خيالِ أيّ محجّبة في المعهد والقبض عليها والبتّ في أمرها.

كانت مديرتها وطنيّة جدّا.. فقد كانت تجمّعيّة “حرّة”. وهذا ما يجعلُها فوق المساءلة في تلك الأيّام، رغم أنّها لم تكن تتوانى في أكل حقوق النّاس، وفي نهب ما تيسّر لها وفي استعمال المال العمومي لمعهدها لأغراضٍ شخصيّة. ولكنّ لا أحد كان يستطيع التشكيك في وطنيّتها أو حبّها للبلد وحدهم التجمعيّون في تلك الأيّام كانوا يقدرون على فكّ أرقام تلك المعادلة الصعبة التي ابتدعوها: أن تحبّ البلَد كما لم يحبّ البلد أحدٌ قبلك، يعني أن تعتبره متاعًا على مِلكك الخاصّ ومستعمرةً يمكنك أن تفعلَ فيها ما تشاء وفي من تشاء.

تذكر أنّها مرّة، في آخر سنة لها في المعهد أرادت أن لا تغادر الأخير دون أن تكون قد حيّت العلم.

لم تكن تحبّ العلم.. ولكنّها كانت تحبّ أن تحيي دماء شهدائه الأحمر وهلال عالمه الإسلاميّ.. فهي كغيرها.. قد صدّقت أنّ هذا ما يرمز إليه علمُ تونس، فأحبّت الرمزيّة.

وفعلا أباح لها القيّم العام في آخر أسبوع لها في المعهد، الوقوف مع زملاء قسم الباكالوريا رياضيات لتحيّي العلم حيث قد تغيّبت المديرة في ذلك اليوم..

تذكر جيّدا كيف خاب تقدير القيّم العام ودخلت المديرة ساحة المعهد بعد بداية النشيد بدقائق… لم تلتفت خلفها حتّى ترى قدومها.. قرأته في أعين الأساتذة والناظر أمامها.

كان يكفي حضورها لترى الشفقة في أعين الأساتذة والتلاميذ الذين أطلقوا عليها لقب “الحاجّة” إذ كانت متطرّفة للغاية: تلبس ميدعة طويلة مع خمار مُسدل وتبتسم للجميع.. في الحقيقة كان يكفي كونها لا تلبس السروال لتكون متطرفة، ولكنّها كانت أصغر وأكثر بساطة من أن تفهم العلاقة بين الحضارة الغربية “القدوة” والسروال النسائيّ.

كم أطال يومها ذلك النشيد.. وكم كان عصيّا عليها أن تعلم أيّ السيناريوهات سيحدث: ستتقدّم أمام الجميع وستسحبها من خمارها لتثأر لهذا التدنيس.. ماذا لو نزعته مباشرة كما فعلت مع غيرها؟؟ ستصفعها كما فعلت لصديقتها أمام أنظار الجميع.. لا لن تفعل.. ستفعل.. ستنتظر انتهاء النشيد.. مديرتها وطنيّة والأكيد أنّها ستنتظر انتهاء النشيد لإذلالها.. هي.. اليتيمة دون وطن.

تلاقفتها السيناريوهات حتى انتهى النشيد الوطنيّ. ركضت مع انتهاء النشيد دون أن تلتفت مسرعة خارج باب المعهد.. وكانت المديرة تركض بدورها خلفها أمام الأساتذة والقيمين وتصبّ عليها أنواع السباب والشتم الذي طال طبعا الناظر والقيّم العام حيث “قلتلكم ال… هاذي جيبولي اسمها ما تزيدش دقيقة في هالليسي”.

لم يتدخّل أساتذتها.. كان كلّ الأمل معقودا في أن يستطيع القيّم العامّ إلهائها عن طردها حتى موعد اجتياز الباكالوريا.. وهذا ما كان يحدثُ فعلا مع كلّ المحجّبات، حيث كانوا إمّا يتغيّبن عن المعهد ساعات تواجد المديرة، ويخفي القيّم والنّاظر وأحيانا الأستاذة وبقيّة التلاميذ هويّاتهنّ عن المديرة تحت ذريعة “ما نعرفوهاش ما تقراش معانا” إذا ما لمحت إحداهنّ خارج المعهد. اللّواتي كان يُقبضُ عليهنّ متلبّساتٍ بلا وطنيّتهنّ هنّ من كانوا يعانون الأمرّين، الإهانة والطرد.

تتنهّد بقوّة وهي تتذكّر سنوات ما قبل الثورة العجاف.. لم تُحزنها الذكرى لأنّها تفكّر أنّ بلدها لم يراهن عليها يوما.. فهي قد كبُرت وفهمت أنّ من هم في السلطة قد سرقوا البلد من أهله.. وهي قد كبرت وانتفضت مع المنتفضين على الظلم والاستبداد لاسترجاعه، فأنشدت بكلّ شرعيّة الغضب “فلا عاش في تونس من خانها ولا عاش من ليس من جندها” حتّى بحّ صوتها.. وقد عمِلت لذلك حتّى ضعُف عودها..

ولكن تحزنها ذكرى آلاف الآلاف من الفتيات والفتية الذين لاقوا أشنع مما لاقت.. والذين لم يفهموا أن البلد وأهله براءٌ مما يحدث لهم والذين لم يبقى لهم في أرصدة الأمل والعقلانيّة والشجاعة ما يبنُون به غدًا أفضل به وله.”

هذا جزء من نص كنت قد كتبته في أحد أيام 2015 ولم أفكر في نشره، إهداء للتلميذة رحمة السويسي والتي تم حفظها البارحة ليلة عيد الاستقلال في تونس في أحد سجون الدولة بسبب تدوينة فايسبوكية تستنكر خلالها تأخر الحكام العرب عن حماية القدس بعد قرار ترامب تغيير السفارة الأمريكية.

بعد الجدل الذي اختلقه البعض الموالي للسلطة، حول اعتراف الناشطة رحمة بتونس كدولة مستقلة وحول علاقتها بالعلم، لا أجد إلا أن أسأل: كيف يستطيع الخونة في كل عهد تحويل الوطنية إلى حبل يلفونه حول رقبة كل من يحاول التفكير أو التحرك خارج إرادة المستعمر؟!

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version