قائمة الانتظار.. أعقد قائمة في الحياة

يقعدُ على جانبٍ من البابِ، يمسكُ مجموعةَ أوراق يبكي بحرقةٍ ودموعه تنهار، رجل في الأربعينيات يشكو إلى الله مسألتَهُ ثُم البشر.

سيد جمال، فلاحٌ كان متوسِط الحالِ يعتبر نفسَهُ غنياً، يكفي ما يكسبه قوته وأسرته لم يمد اليد لأحدٍ، إلى أن جاء اليومُ الذي أحسَّ فيه بالفقرِ والعجزِ معاً.

طفلُه الثاني الذي ينتظرُهُ بفارغِ الصبرِ، ذهب لطبيب النساء والتوليد للمتابعةِ.. فهب عليه خبرٌ كالصاعقةِ احتمال وجود انسداد معوي وسيحتاج عمليةَ بعد الولادةِ مباشرةً.

شهرين ظلّ الطفلُ برحمِ أمِه بعد الخبرِ وهو يأمل كل يوم أن يُخلَفَ الظنُ..

ينتظرُ ميعادَ ولادتِهِ ويخافُ منه في ذاتِ الوقتِ لألا يكونُ التشخيصُ المبدئي صحيحا.

مرتُ الأيامُ فقط لأنها لابد أن تمرَ، ووُلِدَ الطفلُ بما خاف أبوه وخشى، واحتسبَ لعل الله يُقدرُ ويلطف.

وإذا أنَّ ابتلاءهُ لم يكن طفلُهُ المريضِ فقط، ولكنَّ ابتلاءهُ كانَ أكبر.. عجزٌ وفقرٌ..

طُلِب منه أن يُحول طفله إلى حضانٍ فوراً… وكان البلاء!.. الحضانات المجاني متكدسة..

– أكتُب اسمك في دفترِ الانتظار، اسمك في هذا الدفترِ ربما نصلُ إليهِ بعد أسبوع أو أسبوعين، ورقمك في الدفتر بعيد بقدر بُعد الأمل في قلبك،

– أكتب بياناتِك هُنا واذهب بالطفلِ لحضانٍ آخر، وبالطبعِ خاص..

ولا يوجد فرصةٌ فيه لعمل جراحة، إلا إن كنت تملك من المال الكثير لعمل الجراحة في الخاص.

ذهب وهو يحملُ طفلَهُ، ولا حيلة له ولا قوة..

– حضان خاص!؟ وماذا لو أني لا أملكُ مالٍ يكفي ليلة..

– أكتب شيكاً أو وصل أمانة..

– وهل سيتلقى ابني العلاج؟!!

– لا سيأخذُ محاليلَ، يعيشُ عليها وينتظرُ قائمة الانتظارِ.

قائمة الانتظار.. أعقد قائمة في الحياة..

تنتظر أرواح تتألم علاجها، وتدفع في الخاصِ من دمِها، منتظرةَ القائمة التي ربما لا يحينُ دور طفلِك قبلَ أنْ يحينُ أجلُه.

الكل تجمع أمام وحدةِ حديثي الولادةِ في الطابق الثالث من المشفى، ودموعُهم تتساقط..

– ألم يحن دورُ ابني للعلاج..

رجال ربما كان آخِر شيء يتوقعونه أن يبكوا أمام غرباء.. وآخرون نسوا عزةَ نفسهم من التذلل على مكان، ويردُ عليهم أطباء بأن لا حيلة لنا في شيء، والكل ينتظر دوره..

أخذ سيد جمال أوراقَه من تحاليل وصور الأشعة، لقد دفع كل ما يملك في الخاصِ والطفل حالته تسوء، رابط على الباب، لقد أصبح لا يملك الآن شيء، ولا مال ولا حيلة، بضع أوراقٍ فقط تُشَخِص حالةُ طفلِه الذي مازال قلبه ينبض هناك يصرخ بالاستغاثة..

الأفضل أن لا تقترب من الأب في ذلك الوقت، أصبح قنبلةً تنفجرُ في أي أحدٍ، ساخطاً على كل شيء فبالنسبة له مات كل شيء.

رفقاً به ولأن لكل صبرٍ نهايةٍ جاء دوره في القائمة والحمد لله لم يكن مات..

لم نتصل به فقط خرجنا من باب الوحدةِ فإذا به هناك..

– هات ابنك وتعالى يا عم سيد..

لم تنجح كل كلماتِ الدُنيا في وصف تعبيرات وجهه أو فرحته قام وانتفض تلعثم ووقعت منه أوراق وهو يعتذر ويسألنا مرة أخرى إن كان ما سمعه صحيحاً وطار.

اعتبر عم سيد أن ابنه شُفي وتعافى..

ردت فيه روحه وسعد ربما أكثر من شفاه..

اعتبر أن مهمته انتهت.. فالشفاء بيد الله..

والآن فقط بعد أن سلمه لنا كان من الممكن أن يذهب لبيته يأكل بعض الطعام وينام..

وجعل الله من نصيبنا أن نرى الفرحة في عين عم سيد الذى اكتملت بعد شفاه..

لكنه للأسفِ لم يكن آخر عم سيد ولم تنتهِ قائمة المرضى حديثي الولادة، قائمة الحياة للأطفال الأبرياء.

جميع المقالات المنشورة (قصص قصيرة) تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي يوث.

Exit mobile version