قدم في الزحام، وعين على السطح!

من حين إلى آخر وبطريقة دورية ومنتظمة لابد لي من الصعود إلى السطح، ليس حبا فيه، ولا بسبب جارتنا الحسناء التي تسكن في طابق علوي من العمارة المجاورة، لا تفهمني خطأً!

أحب السطح لأن الرؤية من أعلى، أعمق وأوضح، لازلت تصر على أن تسيء الظن بي! يا سيدي كل ما في الأمر أن الشارع مزدحم للغاية، حكايات، مشاغل، مشاكل، تفكير، قرارات، أشخاص ذاهبون، أشخاص عائدون، أصدقاء، جيران، أقارب..

أحباب مازالوا على العهد، وآخرون غادروا بلا رجعة، وباقون حزموا أمتعتهم وأعدوا حقائبهم في انتظار أقرب فرصة للهروب من هذ الشارع المزدحم.

في وسط هذا التكدس لا يستطيع المرء الإبصار جيدا، في حركة الزحام تتشابه الطرق، وتتغير مواقع الأشخاص، وتتشابك خطوط الخريطة.. تُقيد حركتك، وتضعف قدرتك على الرؤية، وتُحجب عن عينيك أشياء وأشياء، تتخبط كثيرا وتلتفت مرارا فتتشتت وتنحرف عن مسارك.

في الزحام، ضوضاء وضجيج، ضحكات عالية، آهات، أنات، لطيم وعويل، أفكار تُشوش، وقرارات تُؤجل، وأهداف تضل مسارها، ومشاعر تختلط وتتغير، ورغبات تتصارع، ونفس تشتهي، وقلب يخفق.

إذا ما كنت من ممارسي لعبة كرة القدم ستفهمني جيدا، فأنت تعرف بالطبع الفارق الكبير بين من يلعب ومن يشاهد، الفارق في زوايا المشاهدة وأبعاد الرؤية ودرجة الوضوح.

لاعب كرة القدم حال اندماجه مع المباراة يصبح لا يرى سوى الكرة واللاعبين طرفي اللعبة فقط، ناهيك عن أنه يرى من مستوى طوله الذي لن يتعدي المترين بأقصى تقدير، بينما القابع في أعلى المدرجات يكشف -في اللحظة ذاتها- الملعب كاملا يرى اللعبة وأطرافها، يرى اللاعب الواقف موقف التسلل واللاعب الآخر الذي تحرك بضع خطوات فأفسد خطة التسلل، يرى خط الدفاع وهو يحلق، وخط الهجوم وهو يراوغ، يري الجبهة اليمنى والجبهة اليسرى، يري المدافع وهو يمسك بتلابيب المهاجم ، ويرى مشادة كلامية بين لاعب خط الوسط واحد لاعبي الاحتياط في الفريق المنافس، أيضا يرى حارس المرمى وهو ينحني استعدادا عند اقتراب الهجمة منه، ويرى في نفس اللحظة حارس مرمى الفريق الآخر وهو يتقدم بضع خطوات خارج منطقة حراسته ينادي بصوته الجهوري موجها ومحمسا أفراد فريقه، يرى كذلك كلا المدربين وجهازهما الفني، ويري طاقم التحكيم، وطاقمي بدلاء الفريقين في آن واحد.. من أعلى فقط ومن الخارج حيث يرى بوضوح كل هذه التفاصيل..

إن لم تكن من هواة كرة القدم فلا بد أنك حضرت عُرس أحد الأقارب أو الأصدقاء ولو لعدة مرات خلال حياتك على الأقل، أتذكر حينما صعدت على المسرح لتهنئة العريس، لا بد أن زاوية الرؤية لديك حينها كانت ضيقة جدا، أما موجهة ناحية العروسان أو ناحية واحدة من قريبات العروس أو ناحية أحد المتطوعين القائمين بالرقص هناك!

أما إذا تركت المسرح وعدت إلى الوراء، هناك عند مدخل القاعة مثلا، فلا بد أنك سترى العريس وهو يقبل جبين عروسه، وترى في الوقت نفسه ذلك المتطوع الذي انسجم وما زال يرقص حتى حينه، وسترى صديقات العروس كلهن، بل والأقارب والمعازيم الذين يتفرقون حول الطاولات في مختلف أنحاء القاعة، سترى أحمد وهو يهمس في أذن محمود، وترى عابد يضحك فاغرا فاه وهو يشير بسبابته نحو أيمن، سترى كذلك صابر وهو يحمل رامي على كتفيه، وهاشم وفوزي وهما يصفقان، سترى أيضا مصور الفيديو وهو يدور بعدسته يلتقط المشاهد من هنا وهناك، ومشغل “الدي جي” وهو يضع على رأسه سماعتين عريضتين ويحرك أصابعه باستمرار في أزرار جهازه الصوتي، وهو يواصل انتقاء وتبديل الأغنيات من حين لآخر لمواصلة إحياء العُرس.

أظنك الآن قد فهمت ما أرمي إليه، لا بد أنك قد فطنت إلى عنوان هذا الشارع المزدحم، وأدركت نه السطح الذي أقصد.

إن كنت تعيش في شارع مزدحم كشارعي هذا فلا بد أن تجرب وتصعد إلى هنا يوما، تنسحب من هذا التزاحم، وتغلق هاتفك النقال، تُحرر نفسك لساعات، تجلس خلالهم صافي الذهن، وحيدا، منعزلا، تراقب من فوق السطح كل الأحداث الدائرة في ذلك الزحام الجاري بالأسفل.

تنظر من أعلى بدقة ووضوح لتعرف من حولك بالتحديد وأين أنت بالضبط، تتبين معالم الطريق، وتُحدد موقعك من جديد، وتُميز الأشخاص، وتستجمع الأفكار، وتستوضح الأهداف، ثم تحدد الأولويات، وتحسم القرارات، وتُصحح المسارات.

ولا تنس بالطبع بعد أن تنتهي، أن تُلق نظرة سريعة -قبل أن تهبط- نحو جارتك الحسناء!

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version