كانت السماء تصطبغ بلون السواد الحزين، حين تسللت كالهارب من بيت جدتها التي تعتبرها الوحيدة التي بقيت لها في هذا الزمن المتوحش..
تسللت متماهية مع ظلمة الليل، وغادرت مسرعة تبحث عن استقرار مفقود، عن مأوى آخر غير هذه الجدران الصماء، شيء ما في نفسها يرفض الإستكانة لحالة اللاموت واللاحياة التي تعيشها في عالم موحش لا يرحم.!
دارت الشوارع بغير هدى كأفعى تصارع الموت وتتلوى من ألم سكراته، كان قلبها ينبض خوفا وملامحها مخطوفة، وكانت تسير بخطوات مائلة مترددة نحو المجهول..
ولكنها قد نست أن الشارع ليس أماً ولا أباً، وليس بجدتها بل، هو غول ينهش في عظام الضعفاء..
وبينما هي تتيقن من هذه الحقيقة، بالملموس لا النظري، فإذا بها تجد شاباً يخرج من مفاصل الظلام الذي ألقى بظلاله على المكان، ألقى عليها تحية السلام، لكن شيئاً خفياً لم يطمئن داخلها، فهرعت خوفاً منه دون أن ترد السلام..
حاولت الهروب منه بخطى متعثرة محتارة، لكنه تبعها، ونظراته تشع خبثاً وافتراساً كأنه ذئب بري..
سألها على مضض مالذي أخرجك في هذه الساعة المتأخرة يا صغيرتي؟.. أليس لك بيت يؤويك؟..
وبكرم الصياد الذي عادة ما يجعله طعماً لفريسة ما، عرض عليها الذهاب معه، قائلاً تعالي معي..
التفتت كي توبخه، فإذا به يهوي أرضاً في نفس اللحظة، فقد هاجمه أحدهم، منقب ومغطى الرأس، يلتحف سواداً كأنه في حداد على أمن مفقود..
ضربه على رأسه فخر جثة هامدة، ونظر إليها -النينجا المجهول- وقال: فلتعودي من حيث جئتِ، فالشارع لا يرحم..
عودي إلى منزلك إن أردت الحفاظ على شرفك وحياتك..
وبدون أن تشعر تمغنطت فيه وارتمت في حضنه، ولكن شيئاً غريباً حصل لحظتها، اجتاحها وهي تجهل كنهه، فرائحة الخمر تفوح منه مدوخة، على غرار ذلك الفتى الذي كان يبدو ملاكا مقارنة به..
وبحركة سريعة نزعت عن رأسه الغطاء وكانت المفاجئة!..
دبت الدهشة في مفاصلها رعشة، فقد كان يشبه أباها الذي غادر ولم يبعث بخبر منذ سنين طويلة، اندهشت وتحت وطأة هول اللحظة تلعثم لسانها وبقيت محدقة فيه كجندي معتوه في أرض يجهلها، والدموع تملؤ عينيها..
فقال لها انطلقي بنيتي وعودي إلى منزلك، فأنا ورائك لا شيء سوف يلمسك، نفذت ما طلبه منها وهي تلتفت في كل مرة إلى الوراء، وفي جعبتها ألف سؤال وسؤال يتسلق الحلق ويسقط قبل الوصول..
حاولت جاهدة دفعها للخروج من فاهها ولكن كل تلك الأسئلة قد تبخرت حين سمعت صوت طلقة آتية من الخلف، إذ أن الفتى الذي صرعه أبوها، أو من تظنه أبوها لم يمت، بل نهض وانتقم برصاصة إنطلقت من مسدسه لتستقر في الرأس، ولكن سخرية القدر كانت تقهقه بوضاعة على المشهد الموغل في العبث، فما حدث يفوق غرائبية الخيال..
لقد بدأ نحيب الشاب حين رأى وجه الميت، فتوقفت عقارب الساعة عن الدوران، حين إمتلأت الأرض بالدماء وإختلط السكون بصراخ الفتى وبكاء الصغيرة..
أخاها قد قتل أباها، وقبل ذلك كان يريد اغتصابها، حقيقة مؤلمة وواقع مر..
كل هذا لأن الأم قد غادرت يوماً ما مع عشيقها، خائنة لزوجها، وتاركة ولديها لقدر مجهول..
فضحت الأم داخل تلك العائلة، فتشردت وكانت هذه هي نهايتهم، بخطأ صغير، تشتت شمل العائلة، تشردت الفتاة، قتل الوالد، سجن الولد، وعاشت الأم مع تأنيب الضمير مذعورة من الفضيحة التي اقترفتها..
يا أسفاه…!
كاتبة التدوينة: سمية خربوش