قمر.. نسمة من الجنة

لا أذكر أن حواءا أبكتني يوما.. لكن ذات الرابعة أو الخامسة ربيعا فعلتها ثلاثا، آخرها كان هذا المساء..

المقام مسجد بين أذاني العشاء، حيث اعتارني طيفها الذي ما فتئ يتخطف خيالي بين الفينة والأخرى، هزت موجة شوقها أركاني، تذكرتها وما تكلفت ذلك، غالبتُ الدموع فغلبتني..

لازلت أتذكر لقائي بها قبل أيام مضت، كانت زيارة لي وثلة من الأصدقاء لإحدى حضانات اليتامى والأطفال المتخلى عنهم، الجو شاعري مع هماسته، دلفنا المركز نهيئ المحيط لاستقبال ضيوفنا ونحن ببيتهم، كما يرون وهم في هكذا سن..

تبادلنا الرقص وإياهم، ناولناهم قطعا من الحلوى وبعض الهدايا، الكل خاشع في زهوه ما عاداها، كانت تسترق النظر بعيونها الغجرية، وشعرها الكستنائي تنسدل خصلاته على كتفيها، أحسَّت بمقرابتي لها، رمتني بنظرة ملائكية ونأت عني، لاحظتُ أن تلك الأجواء لا تجذبها.. اقتربتُ منها رويدا وسألتُ بحذر:

– ما اسمك عزيزتي؟!

صمتَتْ لبرهة، تبسمت فقالت: ”قمر”..

ما شاء الخالق! اسم على مسمى، كانت غاية في الجمال، كسرعة الضوء تسلل حبها إلى قلبي، من أول نظرة عشقتها، زادني إعجابا بها تهجيها اسمها بتلك النعومة وكأن شفتاها تقطران عسلا..

مددت يداي لاحتضانها فتمنعتْ، أخبرتني مربيتها أن الفتيان لا يروقونها، استمريت بفتح ذراعاي، لم استسلم للأمر، أومأت لها برأسي أن تعانقني فرفضت، تركتها والحزن ملأ قلبي، أعلم أن تعلقي بالأطفال كبير، أعشقهم لدرجة الجنون، وربما هم كذلك فطالما أراهم يستأنسون بي، لكن قمرا لم تفعل..

ابتعدت عنها قليلا.. لكني ضللت أراقبها، وهي بدورها كانت تبادلني الفعل، صادف أن أخرجت هاتفي الخلوي من جيبي، علّني كنتُ سألتقط صورة لي مع صديق، اقتربت مني الصغيرة، انحنيت لأجلها دون شعور، نسيت الصورة.. لا بأس صديقي يهون الأمر لعيون هذه الأميرة..

همست بخفوت فلم أسمعها.. أعادت الكَرّة وقد أصختُ بسمعي إليها:

ـ ”عمّو! ناولني هاتفك لألتقط به صورا لأصدقائي”..

تغيرت ملامح قمر..صدقوني! بعد تلك اللحظات من النفور والتعنت، ها هي تترك الابتسامة لتغازل شفتاها من جديد.. ناولتها ذراعاي هذه المرة فعانقتني، حملتها نحو الباقين، كانت تفيض حيوية، تتراقص طربا وهي تنادي زملاءها الصغار تخبرهم أنها تلتقط لهم صورا..

أخبرتني رئيسة المركز أن التصوير محظور هنالك، حاولت أخذ الهاتف منها فتمنعت، نزعته من يدها حيلة فبكت، لم أتحمل بكاءها، اختفينا عن أنظار المديرة وأرجعته لها..

مرت وطئة الوقت سريعا، لم أدر كيف فتنت بها واستمالتني براءتها، فما شعرت كيف انقضت ساعات الزيارة الثلاث، كانت السماء قد توشحت رداءها الأسود والشفق انمحى وراء ستارها الحالك، أُخبِرنا بأن وقت الزيارة انتهى، وأن الأطفال بحاجة للراحة من أجل استئناف الدراسة يوم غد..

كنُا على عجل، نوشك على مغادرة المركز، ولنا مع الأطفال وداع أخير.. وكان مما أثلج صدري هو أن قمرا من سبقت إلى رؤيتي هذه المرة، صاحت تناديني بلهفة، استدرت نحوها باسطا ذراعاي، فسارعت إلي تحتضنني.. فقبلت جبينها وأنا أودعها وأمسح شعرها للمرة الأخيرة. فهمست إلي بكل عفوية:

ـ ”عمو! خذني معك ”..

ها هي تطلق رصاصة الرحمة على قلبي، كانت كلماتها تلك كفيلة لتفتتت بقايا مشاعري التي تهشمت ذاك المساء.. صُدِمت لوقع تلك الكلمات، فقد جعلتني أقف مشدوها لا أنبس ببنت شفة، تبعثرت الكلمات في فمي، لم أقوَ على قول أي شيء.. نسيت كل أبجديات الحوار وأدبيات الرد.. صرت جاهلا أمام الوضع، قبلتها للمرة الأخيرة.. استدبرتها وبكيت..

كانت قمر تمثلني، تمثل ذاك الطفل بداخلي، تجعل الأمور بسيطة على كل حال، تظل صامتة طويلا.. تكثر من التفكير أو التأمل، ربما تعلقت بالرب وهي حديثة السن، فلا شك أن الملائكة رفيقها الدائم، لا تغضب من الآخرين.. فهي تشبهني.. تجعل الصمت رسالة لهم عن صفحها.. تناجي أعماقها تبحث عن الخلاص..

 

نحن غرباء موحشون في هذا العالم، نبتلع ألسنتنا للحظات عديدة وكأنها ختمت بسلسة الرهبة، نخاف على أنفسنا أن نجرح الآخرين بكلامنا الكثير، ففي جرحهم عذابنا. لكننا لما نأخذ زمام الكلام فلا ننقضي بسهولة. نلقي بالكلمات جزافا ولا نهتم لمشاعر أو لرغبات الآخرين، نضحك كثيرا حينما تسنح لنا الفرصة، بقدر بكائنا وربما أكثر.. لكنا لا ننسى الرجوع إلى عوائدنا السيئة لما نختلي بأنفسنا..

أعلم أن قمرا وحيدة مثلي، كانت تقاوم رغبتها بالبكاء وغلبَتها، هي أقوى مني إذن. لا تبكي على ماضيها ولا مستقبلها الذي ما أظنها تحفل به بعد، وحتى إن بكت فلا يتجاوز الأمر أن يكون بكاؤها على قطعة حلوى أو لعبة تروقها لا غير..

نسيت شيئا، قمر مثلي تعشق التصوير، تهوى إيقاف الزمن بكبسة زر، تريد قراءة الملامح وهي تتصنع الابتسامة، ربما لأننا أدرك من غيرنا بهذه المواقف.. نتصنعها كثيرا، تمويها لا نفاقا..

أطلقت قمر تلك الكلمات بكل برود، متأكد أنها لا تعلم بحالي، لو علمت لسكتت حينها.. لم تقدِّر صغيرتي ضعفي، لم تتعلم لغة العيون البائسة وفك رموزها بعد.. فاتها أن تفقه صفاء روحي وضعف حيلتي.. أفتتنت بحب الأطفال، لكن حب قمر دون ذلك، هو جنون.. هو فتنة بل هو ألم..

انتبهتْ صديقة لدموعي، كادت تستفسر؛ نظرَتْ إلى قمر بجانبي، فسكتت. هي بالغة.. إذن تدرك شعوري رغم جهلها بالتفاصيل، ربتت على كتفاي وقالت مواسية:

– لا بأس، هوّن عليك صديقي! هي الظروف هكذا.. لا مناص من الفراق، شاءت الأقدار أن تلقي بمثل هذه الملاك في دار حصانة، لا أظن أن من تخلى عنها يحتوي قلبه ذرة من حنان أو يملك عقلا واعيا، هي أخطاء غيرهم يدفعون ثمنها فداء.. قد تكون غلطة أم، أو غلطة أب أو غلطة مجتمع وعقليات، أغلاط جسيمة تلقي بظلالها على رغبات المراهقين ونزواتهم الطائشة، وغالبا ما تكون هذه هي النهاية..

كفكفت دموعي، أدرت أن أحظى بنظرة أخيرة من قمر دون أن أجرحها، أرسلت لها قبلة طائرة ردتها على نحوي ثم دلفَت مع مربيتها إلى غرفة المعيشة، كان ذاك آخر عهدي بها، أخشى أن لا نلتقي مجددا..

أفتقدكِ كثيرا صغيرتي، لم أعُد أرى انعكسي فيك بعد ذلك، سأكتفي بحفظ صورتك في ذهني وإن حُذفت من ذاكرة هاتفي، أردت أن أعلمك فنون التصوير حتى لا تحزي الرؤوس كما فعلت بأصدقائك يوم ناولتك هاتفي، لن أنساك أبدا الدهر..

صدقيني.. سأذكرك مادام القمر يسطع بنوره في الأفق يكشف عتمة طريقي، ويكشف لنا عن أسرار هذا الكون داحظا ظلام أرضه التي ملئت غما وحزنا..

سأكتب عنك بقلمي “قمر” لأخلد اسمك عزيزتي، سأبكيك كثيرا طفلتي وأدعو الرب أن أجدد بك اللقاء، فلا نور لقلبي سواك بعد اليوم..

أحتاج إليك بلسمي، أشتاق إليك قمر..

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version