ها هي السَّماءُ أوقدتْ مصابيحَها، وأشعلتْ سِراجها المنير، “إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ“.
لتنيرَ عتْمةَ ليلٍ أقسمَ ألاّ يبتسم، فاتّخذَ مِن السّواد أحلكَه، ليُعرَف بهِ، “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا“.
لتؤنسَ مُسافرًا قد أنهكهُ الجوع، فقرّر ألّا يعودَ لأهلهِ قبل أنْ يقتصَّ من غريمهِ الذي عصرَ بُطون الأحبّة، وللّه درّ سيدنا علي بن أبي طالب، حين هجا الفقر فقال:
غالبتُ كلَّ شديدةٍ فغلبتُهـا والفقر غالبني فأصبحَ غالبِي
إنْ أبدِه يفصح وإن لم أبده يقتُل، فقُبّح وجهُه من صاحبِ
لتكونَ عونًا لأولئكَ الذين رمُوا بأنفسِهم في ساحاتِ اللّظى، فإمّا نصرٌ، وإمّا شهادة، “وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ”، تعلنُ للّذي لا يجدُ لنفسِه راحةً طولَ النهار، عن اقتراب نفسِهِ من موعدِ راحتِها.
لتقرعَ نواقيسَ الخطر في آذانِ المرضى، فيرتدُّ الصّدى أنينًا، يمزّق سكونَ اللّيل الأبكم.
لتفتحَ أبوابَ النّور أمامَ أعينِ المظلومين، فدعواهُم ليس بينها وبين الله حجاب:
“وحسبكَ أن ينجو الظلوم وخلفهُ سهامُ دعاءٍ من قسيّ ركوعِ
مريّشة بالهدبِ من كلّ ساهرٍ منهَّلة أطرافها بدمـــــــــوعِ“
لتمخرَ سفينةُ الذكرياتِ عُبابَها بقلوبٍ فرّقها القدر، فالذكرياتُ عطرٌ جميلٌ للقلب، تنعشُه كلّما مرّت به، بلْ لولا الذكريات لَقَتلَ جوعُ اللّقاءِ القلوبَ.
لتشقَّ دهاليزَ الوجعِ في قلوبِ من لا بيوتَ لهم، مَن لا مأوى لهم، من لا يملكونَ من الدنيا شيئًا سوى قطعةِ قُماشٍ غطُّوا بها أنفسَهم لئلاَّ تُكشَف عوراتهم.
لتروي أعيُنًا، قد سئمتْ ضوضاءَ المباني، فراحتْ تكتحلُ بأشعةِ النّجوم كلّما أُوقدتْ، “وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ“.
لتأذنَ للورى بإيقادِ مصابيحِ بيوتهِم، فيلتمّ شملُ الأسرِ تحتَ سقفِ بيتٍ واحد، مُجتمعين حول (الكانون)، أو يتسامرونَ تحتَ سقفِ السَّماء، يتناقشُون وضعَ البلاد، وغلاء المعيشة!
ليُوقدَ طلابُ العلم شُموع الاجتهاد، ويحملُ القُرّاء مشاعلَ الأفكار، وتتحركَ ريشةٌ الفنان، فتحاكي ألوانُها صفحةَ السّماء، وليرتفعَ القلم، فيكتبُ سطورا، وتحتَ السَّطر ألفُ سطر.
لتتعالى شهقاتُ التّائبين، فتختلطَ بهدوء اللّيل، فتنتج سمفونيةً فريدةً، تطربُ لها آذانُ القائمين، “وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا“..
ولتأذنَ لنفسي كذلك بالطيرانِ في عالم الأحلام، والسّباحة في بحر الذكريات، لتسافرَ بين مُروج الماضي، وترسُم للمستقبل طرقات، لتدرسَ حاضرها، وتمسَح من أوراق حياتِها عناوينًا، كان لابدَّ من مسحِها منذُ زمنٍ مضى.
هو اللّيل ليل واحدٌ، حالكٌ سوادُه، موحشٌ ظلامُه، أبكمٌ صوته، غير أنَّ كلاًّ يغنّي على ليلاه.