كيف حفظت القرآن

كنت أبلغ من العمر الخامسة؛ كنت أجلس بين يدي جدي الإمام أعيد وراءه ما كان يقرأ من آيات، كان أبي يوقظنا لصلاة الفجر دوما ويوصينا بحفظ الآيات المشهورة ويستظهرها، لكني كنت أحفظ وإخوتي حفظا مؤقتا هروبا من العقوبة فقط.. أحفظ اليوم وأنسى غدا..

أذكر أن أبي سألنا يوما ماذا قرأنا؟.. 

سألنا يوما ماذا قرأنا في الركعتين؛ فإذا بأخي يقول “طلع البدر علينا”، وننفجر ضاحكين رغم أن العقوبة تكون حارة جدا إلا أننا نحب لحظات الضحك..، كلما بدأنا نكبر، كان جدي وشيخي ينصحني بقراءة ما أحفظ في الصلوات وكان يراقب صلاتي وركوعي للتأكد من أني تأخرت وقرأت بالأحكام، كنت صغيرة وأحفظ سورا معدودات، كبرت مع القرآن..

كانت علاقتي بالقرآن علاقة حب فجدي علمني أن لا أُقدم على تعلم أمر إلا إن أحببته، أن لا أفعل أمرا لا أحبه، كنت صغيرة ولا أفهم الكثير.. أنتظر فحسب أن يشرح لي ما صعب علي والباقي أحفظه دون فهم لكني أحببته جدا.. حين بلغت العاشرة كنت قد حفظت نصف القرآن..

دخلت مسابقات عديدة ووازنت بين القرآن واللعب والدراسة، كنت أستمتع بالفوز الدائم وأبكي بكاءا شديدا حين يتغلب علي أحد ولا أدع شخصآ يتفوق علي في الحفظ..

وكعادة أي بيت؛ يهتم الوالدان بتعليم الأولاد القرآن.. بجوار الدراسة واللعب، كنت أفرح حين يتباهى أبي بحفطي وترتيلي إلا أن ذلك الوصال لم يدم طويلا، بيلوغي الـ11 بدأت التمرد، أهرب من شيخي لا أريد أن أحفظ.. بدأ حفظي يفلت مني، درست عند عدة شيوخ كل منهم تركت فيهم قدرا من الشغب لا ينسى، والآن ألتقي بعدد منهم يستقبلونني بحفاوة متناسين الشغب كله..

مرت خمس سنين وبلغت الـ15 تقريبا كنت جالسة بجانب جدي، حيث كان مرضه قد اشتد وتعالى البكاء في كل مكان وكأنهم يعلنون وفاته وهو حي بيننا، أجلس أمامه وهو يتألم وأسأله هل خف الوجع؟.. فيقول لي: يزيد ولي بكل زيادة أجر الله..، تلك القوة التي يستمدها من إيمانه رغم ألمه..

قلت له: أنت ضعيف الآن فلا بأس، فرد علي: أنا قوي بالقرآن..

هو لم يكن جدي فحسب بل أبي وقد عرفت قيمة القرآن عنده، قال لي: كنت أملي في أن أرتدي تاجا مرصعا ولا زلت أرى الأمل فيك.

رزقت حب جدي وصحبته طالما أحببته ولم أشأ أن أخيب أمله فعزمت يومها وبدأت التخطيط، قسمت 23 جزءا على 4 أشهر، أي 6 أجزاء كل شهر، أي ربع جزء ونصف بمعدل 4 ساعات يوميا..

دافعي كان قويا.. لماذا أحفظ القرآن؟ كان الدافع قويا كان القرآن فرضا كالصوم والصلاة حين أنظر لجدي أستشعر تلك القيمة وذلك الحب وتلك القوة..

التسميع والاستظهار على شيخ، ذهبت إلى شيخ كنت قد أحببته وملأت حصصه شغبا حتى أنه طردني قبلت رأسه وقبلني عنده فبدأت سباقي مع الزمن، ركزت على المتشابهات وعلمت عليهم بقلم الرصاص وكنت أعيدهم أكثر من الآيات العادية..

الاستماع للقرآن من أكثر ما يساعد على إتقان مخارج الحروف والتثبيت، الاستماع أيضا يساعد على إتقان التجويد، التنافس والتفسير، كنت أتنافس مع نفسي أولا ومع رفاقي في المسجد، وتدارست مع أمي كل كتب التفسير لأتدبر تلك الآيات التي عشتها، كنت أحفظه حبا لجدي لكني أيقظت الحب الذي كان بي، أحببت الحروف والكلمات والمعاني..، صبر أيوب، حلم إبراهيم، عفة يوسف، أحببت مريم، خديجة.. صرت أحب الله أكثر..

في الثامن من أغسطس بكيت كثيرا بقدر الفرحة التي غمرتني وأنا أتلو الآيات الأخيرة على الإمام بقدر الضيق الذي انتتابني كيف عشت كل هذا العمر دون أن أشعر بالمعاني، كيف نتجاهل المتع التي في أيدينا بهذا القدر من الغباء، ونلهث وراء السراب أملا في سعادة لا نحققها..

ختمت.. ورأيت جدي سعيدا معافى رحت إلى حضنه كما لاذ يوسف إلى حضن أبيه وأنا أبكي وأعده بالتاج في الدنيا ويوم القيامة..

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version