الانفصام كلمةٌ سمعتُ بها عندما كنتُ صغيراً، ولطالما فكرتُ في طفولتي أنهُ لا ينبغي أن يكونَ الانفصامُ مرضاً، إنهُ نوعٌ من أنواعِ الترفيه؛ إذ من الممتعِ جداً أن تعيش شخصيتين معاً، هذا كفيلٌ بكسرِ المللِ المُنبَعِثِ من روتين الحياة.
وحانتِ اللحظةُ التي رأيتُ فيها نفسي مصاباً بهِ، ولكن بطريقةٍ جديدةٍ، لا أعيشُ شخصيتين معاً، لكني أعيشُ في نفسي مرتين، مرةً في الماضي، ومرةً في الحاضر، وأعتقدُ أن الكثيرَ من الناسِ لديهم نفس أعراض هذا المرض بِحُلّتِهِ الجديدة تلك.
كانت سبع سنواتٍ اختلطت فيها الابتساماتُ بالدموع، وكثرت فيها البهجة رغم المصائب، وكأن الفرحة لا تُلتمسُ إلا في مواطن الألم.
آخر ما أذكرهُ هو دراستي الثانوية وبعدها وجدت نفسي أطرقُ أبواب الخامسة والعشرين، أين تلاشت تلك السنواتُ السبعُ يا ترى؟ هل ضاعت في غمرةِ الأحداث؟ ربما.
كأن ساعتي البيولوجية توقفت عن العمل عند تلك السن، فمرت السنونُ السبع بسرعةٍ جعلت ذاكرتي عاجزةً عن تفريقِ الأيامِ أو تذكرِ التفاصيل، فالوقت ثقيل جداً لحظة مروره، سريع جداً حينما تحاول تذكره.
تزامنَ وصولي لعمرِ الثامنةِ عشرة معَ اشتعالِ الثورة في بلادي، ومنذ أن انخرطت فيها توقفت ذاكرتي عن إحصاءِ السنينَ وبدأت بإحصاءِ عدد القتلى والجرحى والمشردين الذين باتوا يملأون مستودعات عقلي.
مرت أحداثٌ كثيرةٌ، حربٌ، قتالٌ، ثم إصابةٌ اضطرتني للسفرِ من أجل العلاج، وعندما سُئلت في المشفى لأولِ مرةٍ عن عمري استغرقَ مني الجوابُ لحظاتٍ رحلت بها ذاكرتي وجابت مسيرة السنوات السبع ثم أجبت: خمسة وعشرون.
يقول درويش: “لا تندم على حرب أنضجتك” كثيراً ما فكرت بهذه الجملة، كيف لأحد أن لا يندم على حرب، حتماً هي ضربٌ من ضروب المبالغة الشعرية، والشِعْرُ أَعْذَبُهُ الكَذُوبُ.
الآن وأكثر من أي وقت مضى بتُّ متأكداً من صدقها، الحياةُ في الحرب، حتماً ليست أمراً عادياً ولا هيناً، وأن لا تغيرك تلك الحياة فهذا هو المستحيل بعينه، ولن يكون بالإمكان إلا أن تُنْضِجُكَ الحرب.
أعيش انفصاماً زمنياً بعمرِ خمسةٍ وعشرين ووعي رجل خمسيني، فالحرب دفعتني للنضوج دفعاً. إنني عجوزٌ في الخامسةِ والعشرين هذا ما أفكر به دائماً.
بعد العلاج أقمتُ خارج بلادي آمَلُ ببدايةٍ جديدةٍ لحياتي بعد ما عشته في بلدي من أزمات، مرت سنتان لم أذق فيهما طعم الاستقرار الذي حلمتُ به.
نعم.. لم يعد لي مكان في زمنِ السلم، مكاني ما زالَ هناكَ قابعاً في أماكنِ الحربِ والمصائب، كلما حاولتُ التأقلمَ في مكانٍ جديدٍ أعادتني ذاكرتي مجبراً لتلك الليالي التي قضيتها مستمعاً لأصواتِ المدافعِ وأزيزِ الرصاص، وكأن الحرب باتت هي حياتي الطبيعية والسلم هو الحالة العابرة، أو كأنه قُدرَ لي العيشَ في أجواء مشحونة بالتوتر.
أقتاتُ على فتاتِ الماضي وأجترُّ السعادةَ من ذاكرتي اجتراراً، أسير في أزقة ذاكرتي فلا أجد فيها إلا جثامين الأصدقاء وصور النكبات.
أعيش في جو سلمٍ وأمن وتأبى ذاكرتي إلا العيشَ في تلك الأماكن المهدمة والطرقات الخربة.
إنه انفصام من نوع آخر!
كاتب التدوينة: أحمد مصلحجي