لعنة الموت الصامت – مجزرة الكيماوي

الأربعاء 21/8/2013..

يومٌ ليس كمثله من الأيام (على الأقل بالنسبة لأهالي الغوطة الشرقية).. يومٌ تزاحمت فيه الأرواح على أبواب السماء وغصت فيه شوارعٌ وطرقاتٌ وبيوتٌ بجثث هامدة، جثث لأشخاص لم يدروا ماذا؟ أو لماذا؟ أو كيف؟!

يومٌ تنفس فيه بشرٌ حتفهم، وبكى فيه رجالٌ من قهر، ومات فيه أطفالٌ وهم كافرون بكل الهيئات والمنظمات والأنظمة التي تهذي بما يسمى “حقوق الإنسان” وشعارات الإنسانية..

إنها ليلة الموت.. الموت الصامت .. الموت الجاف، ليلةٌ وُصِمَ فيها جبين الإنسانية بوصمة العار والخذلان، ففي تلك الليلة وعند الساعة 2:40 وفي غمار حقد أسود ووحشية دامية، استُهدِفَت منطقة الغوطة الشرقية شرق العاصمة السورية دمشق بثلاثة عشر صاروخ، صواريخ أشبه بلعنات السحر الأسود..

إنها ليست كغيرها من الصواريخ.. فلم تكن تحمل رؤوسا متفجرة ولا شظايا من خردة معدنية بل كانت تحمل سماً زعافاً يفتك بكل ما يسمى “كائناً حياً”.. إنه غاز السارين القاتل..

صواريخٌ انطلقت من منصاتها لتسقط على أحياء وشوارع يقطنها أناسٌ أغلقوا أبواب بيوتهم ظناً منهم أنهم في أمان!

رجالٌ، نساءٌ، أطفالٌ، عجائز..، سقطت عليهم تلك الصواريخ ليبدأ الغاز بالتسرب منها منتشراً في الهواء ويدخل البيوت دون استئذان، مباشراً عمله في الحال.

مشهدٌ أشبهُ بمشاهدِ فلمٍ سينمائي من ضرب الخيال، خلال دقائق بدأت تتعالى أصوات الصراخ الممزوج برهبة الصمت والمفاجئة، أصبح الناس في الطرقات كالسكارى هائمين على وجوههم، لا أحد منهم يدري ما يرى ويسمع ومن أين يبدأ..

فطرياً وغريزياً يجب عليه المباشرة بإسعاف المتساقطين أمامه، ولكن؛ من أين يبدأ؟! هل يسعف الأم أولاً؟ أم يسعف الطفل؟ أم الرجل؟؟ أم العجوز؟!

قاعات الإسعاف أصبحت أشبه بلوحة ملحمية عجيبة

وبدأت نقاط الإسعاف والمشافي الميدانية تستقبل المصابين الوافدين اليها أفواجاً وسط ذهول تام من الأطباء والممرضين والفنيين، وإلى أن بدأ الأطباء بتقييم الموقف وفهم ماهية الحالات التي أمامهم وعصر أذهانهم لاستحضار بعض المعلومات التي درسوها عن كيفية التعامل مع إصابات التسمم الكيميائي، كانت الأَسِرِّةُ من حولهم قد امتلأت وفاضت الأعداد عن قدرة النقاط الاستيعابية، فتكدَّس المصابون على أراضي قاعات الإسعاف وفي غرف العمليات والاستشفاء بل وحتى الغرف الإدارية، إلى أن بدأت كل حارة وشارع ومدرسة ومنشأة بالتحول إلى نقطة طبية في محاولة لاستيعاب الأعداد الكبيرة من المصابين..

صراخٌ وعويلٌ.. أناسٌ يتخبطون في الأرض وعلى الأسَرَّة كمن يتخبطه الشيطان من المس..

فهنا من يصرخ وهنا من يقاوم الموت من الاختناق وهناك من أثَّر فيه الغاز لدرجة الاختلاج فأصبح يطبق راحتا كفيه حول عنقه يريد خنق نفسه بحالة من اللاوعي وعدم إدراك للواقع المحيط، وآخر يضرب الأرض بيديه وقدمه ويطلق حجرشات تهد جبالاً راسية، وطفل يرتجف من أثر الاختلاج تارة ومن قشعريرة البرودة التي تخلّفها مرشات الغسل تارة أخرى وعيناه تنظر في الفراغ لا يعي هل هو في الحياة الدنيا أم تُراها وقعت الواقعة؟؟!

إذ أول ما يتبادر إلى ذهن الرائي أنه يشاهد فيلماً وثائقياً عن معسكرات إعدام الغاز في العهد النازي
وفي جانب آخر من المشهد

مكان الاستهداف

شوارع مكتظة بالمسعفين والمتطوعين والسيارات الوافدة لنقل المصابين، سيارات الإسعاف وسيارات المدنيين الخاصة وسيارات النقل العام والشحن، بل وحتى الدراجات النارية، جميعها تحاول عبثاً استيعاب أعداد المصابين والشهداء لإخلائهم من مكان المجزرة.

وعند المباني؛ يدخل المسعفون فتستقبلهم جثث من كان يحاول النجاة بحياته فلقي حتفه عند باب المبنى أو في فنائه أو على السلالم.

عجوز سقط عند باب بيته قبل أن تسعفه قواه الخائرة، أمٌّ تحمل طفلها وقد تصلَّبت جثتيهما قبل أن يتسنى لهما مغادرة المبنى وفاضت أراوحهما عند أحد السلالم..

في كلِّ مكان؛ جثث مرمية هنا وهناك، منها مغمض العيون ومنها من كانت آخر نظراته دهشة ورهبة.. جميعها يغطي وجوهها زبد الموت..

في داخل البيوت؛ هناك من يصارع الموت وهناك من استسلم له وهناك من مات ولم يدرِ بشيءٍ حتى، فقد كان يغط في نوم عميق فاستفاق للحظات ثم غط في نومه الأبدي..

ففي داخل كل بيت هناك لوحة تحكي قصة لحظات أخيرة من الصراع مع الموت..

عائلة كاملة قضت نحبها دون أن تتحرك من مكانها حتى، فقد كان لها النصيب الأسرع والأكبر من سُمِّ الغاز، أب يمسك بأطفاله وزوجته محاولاً إخراجهم من المنزل فسقط وسقطوا معه عند باب المنزل، ويده مازالت ممسكة بقبضة الباب والأخرى ممسكة بهم..

بيت يملؤه صراخ صامت لعائلة تتخبط مع الموت ولا تقوى على طلب النجدة.

وفي الخارج، مزيج من المسعفين والأهالي تبحث عن ذويها بين البيوت والشوارع، ومنهم من يسقط جرّاء استنشاق ما تبقى من الغاز في الهواء..

فمجرّد القدوم إلى مكان مصاب بغاز السارين دون أخذ تدابير الوقاية والحماية الشخصية، لَهُوَ تحدٍّ صارخٍ للمألوف والمنطق.

عودة إلى النقاط الطبية

فقد امتلأت فناؤها بالجثث المرقمة، نعم مرقمة!.. فإحصاء أعداد الضحايا ليس بالعمل السهل اليسير، جثث مرقمة تقبع في الفناء وفي الشارع منتظرة من يقلّها إلى مثواها الأخير، يتجول بين تلك الجثث مسؤولو الإعلام والإحصاء والتوثيق مع أعداد من الأهالي الباحثين عن ذويهم الذين قضوا نحبهم..

أم تجول بعيون فارغة ووجه مكفهر تبحث عن فلذات كبدها..، أب يهرول بين الجثث يبحث عن عائلته التي أخبروه أنه قد فقدها كلّها، شخص يتشاجر مع من أتى ليأخذ الجثث إلى المدافن دون أن يتسنى للأول أن يجد من فقد بينهم..

وعلى أبواب النقاط الطبية، أناسٌ يخرجون بعد أن حظوا بنصيب من عمر جديد، يخرجون وهم مذهولون من بقائهم على قيد الحياة ونجاتهم من تلك اللعنة السوداء، نظرةٌ من عيونهم  كفيلةٌ بأن تغلق أبواب الحكاية وتكتب نهاية المشهد..

1400 ضحية قضت نحبها في ليل خيم الموت فيها باسطاً أجنحته على آلاف الناس، آلاف من المصابين بالجسد والروح، آلاف من الثكالى والمكلومين الفاقدين لمن أحبوا..

ويسدل الستار على المشهد الأخير، وقد علقت على هذا الستار آلاف من الصور والتقارير والمقاطع المرئية، لتبقى هذه المجزرة ثقباً أسوداً يبتلع كل معاني الإنسانية ويأخذها إلى اللامكان، إلى اللامنطق، إلى القاع حيث تقبع كل قذارات إجرام بني البشر..

وتبقى شواهد القبور الجماعية شاهداً على وجود ضحايا الإجرام تحتها وشاهداً على مجزرةٍ عبثاً سيحاول التاريخ طيَّها ومحوها من الذاكرة.

كاتب التدوينة: محمد عبيد

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version