تفاجأت أن مقالي (الفرص الضائعة) الذي قمت بنشره في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2016 في مدونتي بموقع (هاف بوست) قد حصل على أكثر التدوينات قراءة عام 2016، متفوقاً على تدوينات للأساتذة جمال نصار وشريف منصور وعمرو حمزاوى، فكّرت كثيراً وأصررت على إيجاد أسباب الكتابة فلا داعي لها بالمرة إن كانت بدون سبب أو فراغ أو للشهرة.. وحين جمعت خيوط الإجابة أسرعت لإثباتها.
الأمر يحتاج للعودة إلى الوراء قليلاً، فمنذ أن بدأنا في الصفوف الابتدائية في كتابة موضوعات التعبير انتبه مدرسي إلى أنني أحب الكتابة، وسرعان ما انضممت إلى فريقي الإذاعة والصحافة لأكتب في مجلة المدرسة قصاصات تحتاج إلى توجيه وتدريب، وهذا ما لا تحلم به في مصر..
فلن تجد مَن ينمّي موهبتك أو يرعاها فالفصل به خمسون طالباً و(حوش) المدرسة لا يسعهم بالأساس، تنهي يومك الدراسي لتأكل ساندويتشاً قبل أن تلقي بحقيبة المدرسة الثقيلة وتأخذ حقيبة أخرى بها كراسات الدروس، تتأكد من الواجب وتذهب في رحلة عذاب بين الدروس الخصوصية وتعود آخر اليوم كالذبيحة التي كَثُر عليها الذابحون منهكاً متعباً، فجسدك الهزيل لم يخلق لكل هذا، تجلس كمن يذاكر لتراجع دروسك وتنهي واجبات المدرسة، وغالباً تنام جالساً وفي أفضل الأحوال تحملك والدتك للفراش، أو في أحيان أخرى تجد كوزاً من المياه في قفاك، خاصة أيام الامتحانات التي تستلزم السهر والتعب.
فى الفصول الإعدادية زاد نشاطي قليلاً في الفريق المسرحي والإذاعي وفريق الصحافة، وقمت بعمل تحقيقات صحفية رائعة مع المدرسين، ونشرتها على حائط المدرسة، واشتركت في مسرحيات رائعة مع احتفاظي بمستواي الدراسي المرتفع الذي لا يسمح والداي بأن يتزعزع، فقد كنت أحب المدرسة والذهاب إليها مبكراً، هي في الأساس لا تُطاق بحمامها العفن ومقاعدها البالية، لكن الإذاعة المدرسية كانت تجذبني مبكراً كالعصافير، وكنت أتنافس أنا وأختي للذهاب مبكراً وافتتاح الإذاعة المدرسية ومسابقات الشعر والخطابة وغيرها.
في المرحلة الثانوية عليك أن تنسى كل اهتماماتك وتركز بصورة رهيبة في مستقبلك يا بُني، ستتعب تلك السنوات فقط لترتاح طوال العمر، نعم ستكون مهندساً لتنفع نفسك يا ولدي أو طبيباً كما تريد، أمامك الاختيار، لكن اعلم ذلك جيداً لا مجال للعب أو تضييع الوقت.
العقل حينها لم يستوعب أصلاً هذه الكلمات الكبيرة، لكن عليك أن تتبعها، خاصة كونك مهندساً شيء رائع بالفعل، ربما مهندس حاسب آلي أو مهندس طائرات يا لَجمال هذه الأفكار.. لكن ماذا عن كونك ممثلاً أو مخرجاً أو كاتباً أو ربما عازفاً محترفاً، تؤلف عملاً فنياً راقياً تقدمه للمجتمع؛ لتثبت أن الفن يغير الواقع أفضل من الخُطب والكتب إن أُحسن استخدامه، أو كاتباً تكتب في التاريخ والأدب بصورة راقية مفنَّدة، لكن بسرعة طَرَدت هذه الأفكار التي لا يشجعها أحد، أخاف أن أتحدث بها أصلاً فقد تبدو شاذة أو تبدو محاولة للهروب من كونك مهندساً.. إذاً فأنا مهندس.
وأذكر في هذه المرحلة أنني كتبت مقالاً عن الإرهاب وآخر عن تعدد الزوجات وعرضته على أستاذي الذي أثنى عليهما وطلب منّي أن يكون القادم أفضل.
هذه الأيام أيام الثانوية بدأنا مراجعة القرآن وتوقفنا، قرأنا في السيرة والتاريخ، والأروع ما قد دار من حوارات في السياسة والدين ووقفنا لساعات أمام بوابة المدرسة نناقش أموراً مختلفة، انتخابات الفصل والاتحاد، نتوقف لننطلق فنسأل ونعود نتناقش.. قلَّ ذهابنا إلى المدرسة، فكنت أذاكر ليلاً إلى صلاة الفجر، وأصلي الفجر بمسجد العمارة القديم، وأنام وأستيقظ للدروس، مرت السنوات تلك بسرعة لألتحق بكلية الهندسة وأكون مهندساً كما تمنّيت أو قُل.. كما تمنوا.
طوال سنوات الكلية كنا مضغوطين، امتحان كل شهر و(كويز) كل أسبوع و(ريبورت) كل يومين وورق يلملم من كل مكتبة وكورس في (سنتر) عند محطة الترام، كأنك في معسكر، والقائد لا بد أن يحتفظ بجنوده منضغطين طوال الوقت؛ لذا لم أكتب كثيراً إلا في السنة الرابعة والنهائية، كتبت مقالاتي المميزة (كوب شاي) و(أصدقاء حياتي) وغيرهما، كنت أسكن في حي شعبي في نهاية السنة، مما أضفى نوعاً من الهدوء ليلاً والإزعاج والحركة نهاراً، كتبت عن (المهرجانات) عندما انتشرت في الأحياء الشعبية، وكتبت عن المخدرات من وحي المكان الذي أسكن فيه، كنت أسكن أنا وصديق لي فقط، وكان الجو مهيأً بصورة رائعة للكتابة، كان هناك ركن في الشقة كل ليلة أجلس فيه وأكتب أي شيء قبل أن أذاكر، قرأت كثيراً لمصطفى محمود في هذه السنة، وأحببت أسلوبه وطريقته السهلة وتنوعه..
وعلى لوحة الأحلام التي وضتعها إحدى الفرق بالكلية كتبت في قصاصة حلمي أن أكون كاتباً كمصطفى محمود.. وبعد أن انتهيت من الجامعة والجيش، وبدأت العمل كان هذا كافياً فكونك مهندساً يعني أن تلتحق بالكلية وتتخرج وتجد عملاً مناسباً تجد فيه نفسك وقد كان والحمد لله.
جمعت كل ما كتبت في أجندات أو خلافه وأعدت كتابته على اللاب توب، وبدأت أضيف عليه الكثير، وكنت أكتب كل فترة، وكلما كتبت مقالاً أو قصة قصيرة وجلست أمامها أعيد تقييمها وتنقيحها وأعيد على نفسي السؤال نفسه الذي طرحته في البداية: لماذا أكتب؟!
أعلم وأؤمن أنني طالب في مراحله الأولى في الكتابة رغم أعوامي السبعة وعشرين، وهذا السؤال أظنه سؤالاً مهماً في المراحل الأولى، لقد راودني هذا السؤال قبل سنة مثلاً ولم أجد له جواباً، كمن يُحب فتاة ولا يعلم السبب، وحين جمعت خيوط الإجابة سارعت لإثباتها.
1. أكتب لأؤرخ
أنا أحب الصور جداً أقوم بتصوير كل مكان أذهب إليه، وهناك أشياء لا تستطيع الصور إثباتها، لكن الكتابة تستطيع، مكان ذهبت إليه قد أضفى عليك بسحره وجماله حالة دفعتك للكتابة، فبعد سنين من الآن ما كتبته عن حدث أو مكان سيكون شهادة تنقذ شخصاً قد ظُلم أو تذكِّر الناس بمكان قد نُسي، في عملي كمهندس موقع ارتحلت كثيراً داخل مصر، فمررت على صحراء الإسماعيلية الشاسعة، جنائن المانجو ذات الرائحة العطرة وجمال البحر الشافي، مرسى مطروح وهدوئها وسعتها على الزوار، التمر وزيت الزيتون والنعناع السيوي وشجر التين، سماحة أهلها في البيع والشراء، وأصوات مشايخها التي تعلو المآذن في صلاة العشاء، الأقصر وأسوان والآثار التي تمتد لآلاف السنين شاهدة على أقوام قد بنوا حضارة ضخمة لفراعينهم، الجبل في أسوان والبيوت المبنية به كدرج السلم، جزيرة النباتات والرحلة النيلية التي ترجعك نقياً من الداخل، الحر الشديد وأثره على الوجوه السمراء الباسمة..
الإسكندرية وخفتها وبحرها المريح ومحلاتها المضيئة، الكورنيش ومحطة الرمل وبحري والماكس، قهوة الصاوي بالمحمودية وأدوار الشطرنج التي لا تنتهي، صنوف البشر الذين نخالطهم الجهلاء والعقلاء.. الأسوياء والمرضى، أليست كل هذه الأحداث تستحق التدوين؟ أتكفي الصور بالله عليك لتلتقط كل حدث؟! حتماً لن تكفي.
2. أكتب لأتعلم
الطالب في مراحله الأولى أمامه كثيرُ علم ليكتسبه، وأنا أحب أن أكتب في التاريخ والجغرافيا والجيولوجيا، التاريخ سأكتب التاريخ بصورة روائية بسيطة تناسب القارئ في القطار وفي المواصلات السريعة، وتناسب القارئ أمام الشاطئ وفي المنزل على الفراش.. لماذا لا أكتب مقالاً في الفلك أو أتحدث بطلاقة عن ميكانيكا الطائرات، أما عن روايتي التي ستفاجئكم فستحتاج أن أقرأ مئات الروايات، فكيف أكتب في ذلك قبل أن أتعلم وأقرأ جيداً، حبي وشغفي للكتابة يدفعني للقراءة فأنت تكتب مما تعلمت ممتزجاً بما قرأت، وبما احتككت بتجارب بشرية، وهذه طريقتي لأكتسب العلم في صنوفه المختلفة.. أن أُنمي دائماً شغفي للكتابة.
هذه أسبابي التي من الممكن أن تتغير أو يضاف لها أسباب أخرى، لكني وضعتها بصدق أمامكم وأمامي؛ لكي لا أنسى عهدي في أن أسجل دائماً كل حدث وأن أزكي روحي وعقلي؛ لكي لا تنضب، فإن غِبتُ فاعلموا أنني بعيد، أو لا جديد حولي لأخبركم عنه.