سنَّة الحياة وقوانين الطَّبيعة تفرض على جميع الكائنات الاختلاف، ذلك الهاجس الذي نخافه ونغلِّفه بأغلفة متنوِّعة وندَّعي تقَبُّله ونتبنَّاه أحيانا حتى دون أن ندرك معناه حقيقة.
كيف كانت ستستمرُّ الحياة لو لم نخلق مختلفين يا ترى؟! ذكورا وإناثا.
هل كان صانعنا جلَّ شأنه سيضع لنا طريقة أخرى نتكاثر من خلالها ونتعايش! وكيف سيكون لتلك الحياة طعم ونحن نسخة واحدة تتكرَّر؟!
كلُّنا من جنس واحد مؤمنون بدرجة واحدة متساوية، نعبد إلها واحدا ونتبع رسولا واحدا ولا نملك أي خلافات، كاستواء خط القلب عند سقوط آخر ورقة من خريف العمر. أي لا حياة.
وقد قالها المولى عزَّ وجلَّ في أعظم الكتب: “ولو شاء الله لجعلكم أمَّةً واحِدَة”. لكن هنالك حكمة وراء كلِّ مشيئة له سبحانه؛ “ولكن ليَبْلُوَكم فيماَ آتاكم”. ليمتحن ما فعلنا في هذه المعمورة العامرة مواردا وخيرا وفيرا، ليختبر مدى استغلالنا للميزة التي كرَّمنا بها “ولقد كرَّمنا بني آدم”.
ومدى تفانينا في تنفيذ ما خلقنا من أجله، ألا وهو خلافته سبحانه وتعالى: “وإذ قال ربُّك للملائكة إنِّي جاعل في الأرض خليفة.”
ولن يحدث ذلك إلَّا بتزكية النَّفس وربطها بخالقها جلَّ شأنه وجعل العلم للذَّات إماما فينعكس ذلك على السُّلوك ليصبح بدوره زاكيا نقيًّا لبقا ونتخلَّص من السفاسف التي نعيشها.
غير ذلك، لن يُسمَّى ما نعيشه بحياة، لكن ومع إدراكنا لهذه الحقيقة إلَّا أنَّنا نحاول جاهدين صنع حياة جديدة مماثلة. فالنِّساء يبحثن عن المساواة مع الرِّجال ويقدِّمن أنوثتهنَّ قربانا لإله لم نجد تفسيرا مقنعا له بعد، فلكل هوى يلهث وراء غبار نعليه، والرِّجال يتحوَّلن إلى مجرَّد ذكور لتأتي عملية تخنُّثهم سهلة يسيرة يتقبَّلها العقل المعطوب.
ومن بين محاولات البحث عن نسخة واحدة فقط تتكرَّر بمرور الزَّمن وهروب القلوب تتربَّع ظاهرة السَّعي وراء تاج الخلود.
“سمو المال” الذي يدفع بكلِّ من أراد مدخولا وفيرا ولقبا ضخما يمكِّنه من امتلاك المسؤولية التي أصبحت من كونها تكليف إلى تشريف واستغلال واستبداد وفقط، جعل الكلَّ يلهث للحصول على لقب ملاك الرَّحمة بين أسوار عالم الطِّب بغض النَّظر عن كمِّية الرَّحمة في قلبه أو يلجأ إلى كلِّيات الهندسة ليشبِع نقصه. بحكم أنَّ هذه التَّخصصات هي الوحيدة التي تكفي لملء استمارة التَّباهي أمام مدراء النُّقص في وطننا الاستثنائي.
نحن بحاجة إلى عامل النَّظافة الذي نعتبره رمزا للفشل والذُّلِّ نظرا لاكتظاظنا بمخلَّفات الجهل ومشتقَّاته، والمعلِّم الذي صارت مهنته وهيبته أرخص من نعل بلاستيكي قديم، والبنَّاء الذي يقترن اسمه بالاحتقار دائما، والتَّاجر والميكانيكي والنَّجَّار وسائق السَّيَّارات والحافلات والفنَّان الحقيقي والكاتب والصُّحفي والإمام والمفكِّر.. بقدر حاجتنا إلى الطَّبيب والمهندس.
لم نخلق لنكون جميعا أطبَّاء ومهندسين، وإلَّا سنضطر لمعالجة أنفسنا وبناء عمران تعيش فيه القوارض.
نقص في الثِّقة بالنَّفس أم نقص في التَّفكير أم نقص في قوَّة الشَّخصية هو ما ولَّد هذه النَّظرة القاصرة للعلوم ليتمَّ اختصار أهمِّية كلِّ العلوم والتَّخصُّصات الأخرى بين بابَي الطِّبِّ والهندسة، وخاصة الطِّب.
علينا وضع ميزان حقيقي نقيس به نسبة احتياجاتنا لكل شيء، بما في ذلك العلوم المختلفة. لأنَّ اللَّهث وراء الألقاب البرَّاقة لن يخلِّف سوى عقد إضافية لمجتمع يعاني من كلِّ شيء..
ندرك جيِّدا أهمِّية الطِّبِّ وفوائده خاصَّة وأنَّنا نعيش في بلد معتلٍّ لكن السَّيْل قد بلغ الزُّبى، خاصَّة عندما نرى نصف الأطبَّاء قد تحوَّلوا إلى تجَّار وعددهم فاق عدد المرضى، وأغلب الممرِّضين لا يردُّون حتَّى السَّلام.