مالك بن نبي.. 6 محطات في حياة مؤرخ ومفكر النهضة الإسلامية

دمج الإنسان والوقت والتراب فصنع حضارة، كتب التاريخ والحاضر والمستقبل مقدما الواجب على الحق، بذل جهودا فكرية في العلم والعمل لبناء أسس فكر إسلامي حر، دقيقا كان في وصف المشكلات وإن بدا مبالغا في طرح سبل معالجتها، فيلسوف الإنسان والحضارة، علما من أعلام الفكر والفلسفة والثقافة، إنه المفكر والمؤرخ مالك بن نبي.

قسنطينة.. مسقط رأس مالك بن نبي ونشأته

ولد مالك بن نبي في سنة 1905 في قسنطينة المدينة المعلقة على قمة جبال الشرق الجزائري، في أسرة فقيرة هاجر الجد الذي يعنيها إلى ليبيا بسبب القمع الاستعماري، فاضطرت الأم للعمل بالخياطة وحتى لبيع بعض أواني البيت لسد حاجات العائلة.

كانت قسنطينة مدينة صدرت لمالك الصغير أساطير كثيرة، كانت جدته تروي له حكايات اجتياح الفرنسيين للمدينة وكيف كانت الصبايا تحاولن الهبوط بواسطة الحبال من أسوارها خوفا على عرضهن من الجنود، فمن هن من تنجو ومن هن من تهوي إلى الواد السحيق.

كانت قسنطينة مليئة بالأساطير وبذكريات وجروح سبعين عاما من الاحتلال، وفيها نشأ الوعي المرهف لهذا الصبي الذي أحب القراءة منذ صغره، فأصبح همه الوحيد أن يقرأ كل ما طالت يده بالفرنسية أو العربية.

تأثر بن نبي بالحياة الاجتماعية والثقافية في بلد حلت فيه المقاهي محل النوادي، فيه يقرأ الناس الصحف العربية والفرنسية، ويتبادلون الأفكار وأخبار انتصارات الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي، فحس مبكرا بوطئة الظلم الاستعماري.

في الجامع الكبير تعلم بن نبي القرآن عند الشيخ عبد المجيد، في الوقت الذي كان فيه يزاول تعليمه في المدارس الفرنسية متميزا عن رفقائه من العرب والفرنسيين، هذه الثقافة المزدوجة كان لها دور كبير في صياغة شخصية بن نبي.

محطة باريس.. المهندس مالك بن نبي

أتم مالك بن نبي دراسته الثانوية سنة 1925، ولم يقتنع طويلا بالعمل في الإدارة الاستعمارية، فقرر السفر إلى باريس لإتمام دراساته العليا.

في باريس حاول مالك بن نبي دخول معهد اللغات الشرقية، إلا أن نجاحه في امتحان الدخول لم يمنع إدارة المعهد من مواجهة طلبه بالرفض.

فكان على بن نبي أن يكتفي بدراسة هندسة الكهرباء، دفن الطالب كل همومه كعادته بدراسته فتألق في دراسته، وأقبل على قراءة كل ما له علاقة بالعلوم والفلسفة من الفكر والسياسة إلى مسح الأراضي وتربية النحل.

كانت مطالعته موسوعية وكأن الرجل كان يريد أن يكفي أمته كل ما تخاذلت عنه من معرفة في شتى الميادين.

كان نشاط مالك بن نبي الميداني جليا، فقام مع صديقه حمود بن ساعي بتوزيع منشورات مناهضة للاستعمار في شوارع باريس وأقام علاقات مع المفكرين والناشطين وألقى محاضرة بعنوان لماذا نحن مسلمون، جذبت إليه أنظار الوسط الثقافي والمستشرق الفرنسي الكبير لويس ماسينيون الذي قدم له دعوة ليناقش معه بعض من أفكاره.

كان بن نبي يتردد بانتظام على جمعية الوحدة المسيحية لشباب باريس، التي تضم شبابا مهتمين بالتبشير المسيحي، للاحتكاك بالدين الأخر سمح له بالاطلاع على هذه الديانات وأن يعرف مد تأثير الديانات على الإنسان المتدين المسيحي أو اليهودي.

تعلم بن نبي من هذه الجمعية التسامح والنشاط العملي المنظم في نشر الدين خلافا للأسلوب الإسلامي التقليدي في الدعوة والخطاب الجاد، وحاول نقل هذه الأفكار إلى جمعية الطلبة المسلمين وأيضا إلى جمعية الوحدة العربية السرية التي كان يشرف عليها المفكر الإسلامي الكبير الأمير الدرزي شكيب أرسلان، ولكن محاولاته لم تنجح ولم يفلح مالك بن نبي بأن يجد ما يأمله في أي حزب كان طيلة حياته.

محنة مالك بن بني

أتم بن نبي دراسة هندسة الكهرباء في سنة 1935، ولكن السلطات الفرنسية تدخلت  لحرمانه من تسلم شهادته الجامعية، تسببت مواقف الرجل وكتاباته في إغلاق سبل كل العيش الكريم في وجهه، سواء في فرنسا أو الجزائر المستعمرة، صارت الوظيفة حلما مستحيلا وبات بن نبي متأكدا في قرارة نفسه من أن الفرنسيين قد قرروا معاقبته مدى الحياة.

طيلة سنوات الطويلة اضطر المهندس الخجول المولع بالفلسفة وهموم الوطن إلى العمل في كل شيء كي يعيش، في كل المهن العفيفة والبسيطة التي لا تحتاج كم المعارف التي ناضل لتحصيلها، مهن يمارسها في فرنسا أبناء بلده الهاربون من فقر الوطن إلى فقر أخر.

فعمل كاتب في بلدية فرنسية، وكان يدرس اللغة لجالية المهاجرين في مرسيليا.

شكلت المحنة فرصة بن نبي كي يمتحن صبره على الطريق الذي اختاره لنفسه، وككل المفكرين الثائرين كانت المحنة فرصة بن نبي كي يكتب عن المحن كلها، عن الثقافة التي ضاعت، وعن المستقبل الذي يبدو مجهولا، وأفق المقاومة والنهوض.

فألف كتاب الظاهرة القرآنية أو شروط النهضة، حيث وضع الحضارة بشكل معادلة رياضية بمعنى أن الحضارة تساوي الإنسان + التراب + الوقت، بالإضافة إلى الفكرة الدينية التي تربط كل هذه العناصر وتعطي لها ديناميكية والتكامل فيما بينها.

القاهرة.. المحطة الثالثة في حياة المفكر مالك بن نبي

بعد مؤتمر باندوغ لدول عدم الانحياز سنة 1956، الذي شارك فيه بقوة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، كتب مالك بن نبي عن مستقبل النهوض الحضاري الإفريقي الأسيوي في كتاب بعنوان فكرة الأفرو أسيوية، وكان يطمح أن يكون هذا الكتاب مرجعية لهذا المشروع الكبير الذي تبناه زعماء العالم الثالث في تلك الفترة ومن بينهم جمال عبد الناصر.

تبنت القاهرة الكتاب وطبعته واستقبلت المفكر الجزائري لينضم للعدد الكبير من المثقفين الذين كانت العاصمة المصرية قبلتهم في تلك الفترة، نشرت مجلة روز اليوسف حوارا أجراه مع بن نبي الكاتب الصحفي إحسان عبد القدوس.

أثار الحوار ضجة كبيرة وسمع الكثير من طلبة الجامعات للمرة الأولى عن هذا المفكر الجزائري المتألق صاحب نظرية القابلية للاستعمار.

استقر مالك بن نبي في منطقة المعادي، وجعل بيته ملتقى لعقد ندوة فكرية للطلبة المسلمين من كل الجنسيات، من طنجة إلى جاكرتا، تعاون الطلبة والمحسنون في تمويل طباعة كتابة بن نبي الذي كان يصر على بيعها أيضا بثمن زهيد كي تصل إلى كل الناس، كما ضل يعيش حياة بسيطة جدا يتقاسم فيها مع طلبته حتى الأكل والشرب.

كان ذلك المدافع الشرس عن العقل والفلسفة والنهوض الحضاري، رجلا مؤمن حتى أن أحد أصدقائه قد وصفه بأنه كان إما كاتيا أو عابدا.

كان مالك بن نبي رجلا أمن بأن الحضارة هي إنسان وتراب وزمن، فعندما يلتقي جسد إنسان غريب في قومه بالتراب، تغدو المسألة مسألة زمن طال أم قصر قبل أن يعود من النسيان.

مالك بن نبي ودعم الثورة الجزائرية

اختار مالك بن نبي أن يستغل وجوده في العاصمة المصرية القاهرة لحشد الدعم للثورة الجزائرية الكبرى، حيث تكلم بن نبي في إذاعة صوت العرب كي يوجه نداءاته إلى المجاهدين على جبهات القتال وكتب يدعو للسير في طريق الكفاح المسلح حتى النهاية.

وبعث رسالة إلى جبهة التحرير الوطني وبهذه الرسالة قال فيها أنه مستعد لخدمة مشروع الثورة الجزائرية إما ككاتب ومؤرخ عن هذه الثورة ويعرفها للرأي العام العالمي، وإما كممرض في صفوف الجيش التحرير الوطني.

بعد 8 سنوات من الكفاح المسلح أعلن الجنرال ديغول عقب استفتاء تقرير المصير استقلال الجزائر نهائيا من فرنسا بعد 132 عام من الاحتلال، ودع الشعب أنذاله وداع الأنذال واستقبل أبطاله استقبال الابطال.

العودة إلى الجزائر

عاد مالك بن نبي سنة 1963 إلى جزائر خالية من العساكر الفرنسية ومليئة بشعارات الاستقلال البراقة فعين مديرا عاما للتعليم العالي.

اتخذ مالك بن نبي لنفسه سكنا بسيطا في قلب العاصمة، واضطر للاستقالة من منصبه بعد أربع سنوات بسبب مشاكل مع السلطة، فعاد المفكر الزاهد ليتفرع للعملين الوحيدين اللذين استطاع أن يقوما بهما طيلة حياته كاتبا أو عابدا في بيته البسيط.

كان مالك يقيم ندوة أسبوعية في بيته السبت والأحد، ندوة عربية موجهة للمعربين، وندوة بالفرنسية موجهة للفرانكونيين، يقدم فيها دروسا  للتحدث عن الإسلام الذي يحلم به، والعقل العربي الذي ينشده، والحضارة التي طال انتظار نهضتها.

تحولت ندوة مالك بن نبي الأسبوعية إلى ملتقى للفكر الإسلامي سيتواصل إلى اليوم.

أما مالك بن نبي فقد خلف له سقوطه في درج منزله آلاما في الرأس توفي بسببها في سنة 1973 في صمت وبعيدا عن الأضواء.

مالك بن نبي مدرسة لم ترَ النور بعد، ويذكرني ما قاله لزوجته وهو على فراش الموت، أنا سأعود بعد ثلاثين سنة.

كان مالك بن نبي رجلا آمن بأن الحضارة هي إنسان وتراب وزمن، فعندما يلتقي جسد إنسان غريب في قومه بالتراب، تغدو المسألة مسألة زمن طال أم قصر قبل أن يعود من النسيان.

Exit mobile version