اقترحتُ على صديقتي موضوعا لرسالة التخرج “أدبيات الخطاب السياسي والتجديد الفني فيه”، فرفضته؛ لأن مصدر المادة لم ينشر إلا إلكترونياً، وبالتالي ليس هناك طبعة ولا حقوق نشر محفوظة، فاقترحتُ موضوعاً عن التجديد الفني في لغة الصحافة الإلكترونية، فلم يصلح كونه غير موثوق وغير منشور ورقياً، وبحثتُ لها كثيراً فلم أجد موضوعاً يمكن تطويعه في ساحة النقد إلا عبر آخر كتابٍ قبل التكنولوجيا وبعد الثورة!
لا يستطيع أحدٌ تجاوز هذا العالم الافتراضي (أسميه الوهمي)، فقيمة الكاتب أصبحت بعدد المعجبين على صفحته وليس بعدد مبيعات كتبه، وشهرة بعض الصحف بحجم تفعيلها لموقعها الإلكتروني، والأفلام بحجم المشاهدات عبر اليوتيوب، والقصائد بحجم الإعجابات، حتى إنني أحياناً حين يُطلب مني قصيدةٌ أو نص، لا أشعر بوجوده إلا إن حصلتُ على نسخةٍ إلكترونية منه ونشرتها عبر صفحتي، هكذا تورَد ثقافة هذا العصر، تهطل من سماءٍ لا أرضَ لها، وتنبت من أرضٍ لا ماء فيها، فلا ندري إلى أين تصّعد؟ وأين تمكث؟!
أصبحنا نشعر بالثراء جراء هذا الكم الهائل من المكتبات الإلكترونية، وملفات الـpdf التي تعج بها الألواح الذكية والحواسيب، في المقابل كان الكتاب الورقي يشغل حيزاً كبيراً في الروح والرصيد البنكي للمعنويات وفي الخزانة أيضاً، حتى إن المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري قد نقل كتبه عبر شاحناتٍ كبيرة حين عاد من رحلة علمٍ طويلة إلى مصر.
أما على صعيد التجربة الخاصة التي يحياها آلاف الشباب في الجزائر فالكتب الإلكترونية أجدى، فلا يكاد القارئ يجد مصروف جيبه كي يلبّي رغبته الجامحة في اقتناء الكتب، فتوفّر عليه إضاءة الجوال شظف الانتظار، وتسد رمقه بلقيماتٍ تقيم صلب عقله، وصولاً إلى إدمان القراءة عبر هذه الشاشات، فلكلّ عصرٍ روّداه، ولهؤلاء الرواد ذائقتهم الخاصة التي تروّض حتى تستسيغ معطيات الواقع، وأعتقد أن القراءة الإلكترونية من أهم الأطعمة التي يجب أن نرغبها ونطلبها على الطاولة.
لعل علامة هذه الأيام هي الإيقاع السريع والحدر في كل مناحيه، وأسرع وجبةٍ سريعةٍ نتلقّاها هي الفضاء الحرّ المسمّى بالإلكتروني، الكتب متاحةٌ كل الوقت، والأخبار في مهب الريح، والتنافس على القراءة والكتابة بات في أوجه.
ولعلنا في خضمّ المعمعة لا نرى لذلك على المستوى القريب سوى الأثر الحسن، فالكتاب بين يديك في الطائرة، وتحت الفراش، وأمام طاولة الطعام، وفي الحافلة، لا أحد يتطفّل ليقرأ العنوان، ولا مالٌ يمنعك من اقتنائه، ولا أرفف تضيق بالأوراق، إضافة لتلاقح الأفكار بين القراء، وأهم شيء الصبغة الثقافية التي يعطيك إياها، فيصبح من قرأ كتاباً أو ورقةً أو حتى غلافاً لكتاب مشاعاً بين المعجبين والمهتمين!
هذا كما قلت على المستوى القريب، لكن في حال مشى التاريخ بنا أميالاً زمنية، وأراد خلف العصر تتبّعَ خطوِ أعيان العصر، أين سيجدون سادتهم؟! وكيف يلمسون ملامحنا في الهواء؟ وهي تكفي صفحة الفيسبوك لتقول للتاريخ إنني شاعرة، وذاك كاتب؟ وأولئك قراء!؟
وهل من غنىً عن عالم الأوراق والأحداق، وحين تنسى الأرض مثقفيها، من لذاكرة الأجيال!؟ من!