منذ حصوله على الاستقلال والمغرب يعيش باستمرار حالة من التوتر السياسي الحاد لكن دون أن تنطلق حركة ما في أي اتجاه كان، فمنطق اللاحسم من جانب واللاوضوح من جانب ثاني هما السمتان الأكبر والأكثر تميزا داخل المشهد السياسي المغربي.
فعلى الظاهر توحي الأمور كما لو أن التشكيلات السياسية توجد باستمرار على شفا المواجهة سواء على المستوى الداخلي من خلال وجود تيارات وأجنحة متصارعة داخل الحزب الواحد، أو فيما بينها من خلال صراعات بين يسار الملك ويمينه وإسلامييه، أو حتى مع القصر نفسه لكن شكل الصراع مع هذا الأخير تكون مستوياته أكثر تعقيدا من وجود اصطدام مباشر.
لكن مفارقة هذه الانقسامية في شكل المشهد أنه يصاحبها جمود على مستوى آخر، وهو أنه نادرا ما تنفجر هذه الصراعات المفتوحة لتتخذ شكلا آخر غير توليد جمود من نوع جديد، بل إن بمجرد الدخول إلى داخل حلقة السلطة والقبول بالقواعد المعروفة والمحددة سلفا تلبس التشكيلات لبوس المحافظة وتصاب بحالة من الجبن السياسي وقصور في الإرادة والمبادرة إلا في إطار النطاق الذي يراد لها بمعنى أن لا مبادرة ولا برنامج ولا حركة ولا سكون إلا بتقدير ممن يهمهم الأمر.
التلازم الدائم بين التوتر والجمود والمعادلة بين الضرورة في التسريع من وتيرة العمل التي يتم التلويح بها باستمرار وبين انعدام القدرة التامة على أخذ المبادرة لا يجب فهمه دائما على أنه رفض لخدمة الساكنة أو عجز عن تطبيق وعود انتخابية أو سياسية من قبل هذا الفاعل أو ذاك، إنما الأمر في جزئه وكله هو خوف من طرف يجد ويرى في كل من يقوم بأمر كهذا دون الإذن والمصادقة والرضا منه شكلا من أشكال العصيان والتمرد على ولي النعمة الأول في البلد.
من سمات تشكيلات المشهد كذلك الترويج الدائم لإشاعات حول قرب اتخاذ قرارات هامة من لدن الحكومة أو القصر، فالصحافة الحزبية وبالذات تلك التي تلعب دور المعارضة ولا حتى الأبواق القريبة من دوائر السلطة تجد في ذلك شكلا من أشكال التعويض النفسي عن واقع لا يعبر عن طموحاتها بالضرورة، فالأمر أشبه بعملية احتجاج ودعوة لبقة إلى من يهمهم الأمر لإعادة تشكيل أو تصحيح واقع قائم، لكن في الأخير ناذرا ما تصدق كل تلك التوقعات وهكذا ودواليك.
فالتسليم التام بمبدأ التفوق المطلق للعرش هو القاسم المشترك بين هذه الجماعات، وتتجلى القاعدة الوحيدة من قواعد اللعبة السياسية التي لا يشوبها أي غموض ويؤدي خرقها إلى عقاب مباشر، وهو أن شخص الملك ومؤسسة العرش لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تهاجم أو تتعرض للنقد بصورة مباشرة وعلنية ولا أن يرد لها أي طلب.
هذا الأمر يجعل الأحزاب أو حتى أي من باقي التشكيلات الأخرى إلى توظيف السلطة دائما بطريقة دفاعية أساسا، أي للحفاظ على الوضع قدر الإمكان بدل التقدم للأمام والاستثمار فيما هو متحقق لأمل تحقيق ما هو أكبر من ذلك، هذا لا يعني أن الأمر يعود لعيب في الأحزاب أو لجبنها السياسي فقط وإنما لأن هناك واقع ومانع يفرض نفسه وهو وجود نوع من اللاتساهل مع من يقتربون من حدود خارج تلك المحددة سلفا، وحتى إذا ما تمت أي محاولة من المحاولات هذا الجانب فإنما من أجل معرفة نطاق تلك الحدود التي من الممكن التحرك فيها.
لكن مع استثناءات في حالات بسيطة للجماعات الخارجة من مطبخ السلطة مباشرة أو تلك التي ساعدتها على الظهور والتغول (الفديك، الأصالة والمعاصرة، الأحرار…)، فهذه الأخيرة يسمح لها بهامش أكبر من المناورة والحرية في المبادرة وربما مرد ذلك هو ضمان دار الملك أنها لن تخرج عن نطاق الحدود المرسومة ومن يفكر في غير ذلك فمصيره الإبعاد والخروج من نطاق الحماية (حالة إلياس العماري مثلا).
لكن لا يعني ذلك تبني مواقفها أو برامجها فالجالس على العرش يظل حريصا على الظهور بمظهر الآخر لنفس المسافة من الجميع مادام هو الحكم الذي لا حكم بعده، لكن بما أنه لا يلتزم بذلك بصورة علنية فإنه يستطيع الاستفادة من نجاح أي حركة تعمل باسمه، كما يمكنه أن يتخلى عنها في حالة إخفاقها.
هذا الأمر أو ذاك يخلق لنا صورة تبدو الأحزاب السياسية فيها وكأنها مجرد ائتلافات مضطربة بين جماعات (في الحقيقة هي كذلك فعلا)، يخضع تماسكها لنوع التوازن الحاصل بين عناصر حيث يوجد التوتر وعناصر التوازن سواء داخل التشكيلة الواحدة أو بين مختلف التشكيلات، لذا فمن أجل حل النزاعات التي تسببها هذه الوضعية فهناك ضرورة للتحكيم، والحكم الأول هنا طبعا لا يمكن أن يخرج عن دار المخزن.
الجانب الآخر أن “الزعيم السياسي” المغربي لا يتردد في استعمال العادات الاجتماعية التقاليدية واللعب على الجانب التراثي من أجل المحافظة على أتباعه وتوسيع صفوفهم، وهي من أهم خصائص الأسلوب السياسي المغربي، فيكفي رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران مثلا أن تلتقط له صورة عفوية وهو يهم لشراء سروال تقليدي (قندريزي) لتلتهب وسائل التواصل للحديث عن الأمر وكأن الأمر حدث وطني رغم أن ما قام به الرجل يقوم به معظم الرجال المغاربة من سنه. لذلك يشكل الزعيم “شيخ الزاوية” داخل التشكيلات السياسية، وهذه الميزة يشترك فيها اليمين واليسار دون استثناء.
وبما أن الجماعات السياسية المغربية تتشكل عادة من رئيس وأتباع، فإن أفضل وسيلة لإبقائها على قيد الحياة تتجلى في السهر على ألا يفقد الرئيس كل نفوذه، ويتجلى هذا النفوذ عادة في إمكانيات الاتصال المباشر مع الملك، فبواسطة عدد من المبادرات الرمزية مثل المشاورات الرسمية والتكليف بمهام في الخارج إلخ…
إذ يتم دائما مساعدة القادة على الاحتفاظ بقسط أدنى من ثقة أتباعهم لكي تتوفر لديهم إمكانية تأسيس جماعتهم من جديد في الوقت المناسب (ومن المرجح جدا أن يقوم بالأمر نفسه مع بنكيران حيث سيعمل على عدم انتهائه سياسيا ليتم توظيفه في مهمة ما مستقبلا لكن على أن يتم الأمر بشروطهم لا بشروطه).
حالة “حزب الاستقلال“
جزء كبير مما سلف ذكره يمكن أن نقيس ونحلل به حالة حزب الاستقلال الحالية، سواء في بنيته وأسلوبه وعلاقته داخليا أو مع مختلف الفاعلين الآخرين.
إذ لم يشكل الحزب في حقيقته سوى ائتلاف مصالح إذ لم يكن يمثل فكرا بناء أو إرادة إيجابية موحدة، بل كان هدفه الأسمى ينحصر في البقاء لفائدة الجماعات والأشخاص الذين يكونونه.
فحزب الاستقلال ليس سوى تجمع لفئات مبعثرة لا يجمعها في المضمون لا مشروع برنامج للمجتمع ولا إيديولوجية سياسية واضحة يمكن أن تكون حضنا لكل تلك الأشكال والمذاهب السياسية والمجتمعية اللهم الأقتيات من أوهام تاريخ كتب على مقاس الغالب.
تشكيل أشبه بشكل مركب ومعقد يتكون بالدرجة الأولى من بقايا العمل الوطني وقادة الحركة العمالية وكبار التجار وأرباب العمل (خاصة من النخبة الفاسية) قبل أن تنضم إليها كآخر الملتحقين نخب كبرى قبائل الصحراء، أما من يأتون في الدرجة الثانية ورغم أن للكثير منهم رصيد فكري وثقافي محترم إلا أن نطاق تحركه وتأثير يبقى محدودا ولا يسمح له بالتحرك في غير ذلك (نموذج بنحمزة، البقالي العباسي، الكيحل..) .
فالحزب يعاني من أنانية أعضائه وعدم استقرارهم، حيث تكون حظوة المخزن من عدمها هي الكلمة السحر في العادة لبلوغ الثروة الهائلة أو السقوط والإفلاس عند الغضبة حالة شباط وتعويضه بنزار بركة رغم أن صعود الأول كان بدعم من السلطة لكن عندما قرر اللعب بطريقته هو لا بطريقتها هي تم الاستغناء عنه حتى دون أن يقال له شكرا في برقية الملك الأخيرة لسلفه في خروج عن العرف المعمول به.
فذلك القلق حول المستقبل يزيد من احتدام الطموحات ومن إشباع رغبات اللحظة الآنية، فالأمر في بعض الحالات ونتيجة التوتر الحاد والخوف الشديد من خسارة الموقع يصل ببعض أصحابه إلى القيام بأشياء قد لا يستسيغها عقل المواطن العادي وقد يجدها أحيانا ضربا من ضروب الجنون خرجات شباط السابقة كلها تؤكد ذلك.
لذلك إذا فمن آثار أزمات الحزب التي بالمناسبة ليست استثناء داخل مشهد سياسي أكثر تأزما أنها أفرزت مجموعات لها استعداد بأن تقع في قبضة القصر وتحت تصرفه. ليس بالضرورة أن يكون للصراع الحالي دور فيه لهذا الأخير لكن ذلك لا يعني كذلك أنه كان بعيدا عن الحدث، الخلاف في واقعه يعود لمسلسل من الانقسامات الداخلية العفوية وما هو إلا تتويج لمسار طويل لكائن جمع في داخل كل النقائض الممكنة.