من ذاكرة الطفولة

ما زلت أتذكر جيدا في صغري، عندما كانت أمي بين الفينة والأخرى تعمل جاهدة على تلقيني دروس دينية ودنيوية عن جميع الأمور وباختصار مفيد غير معمق، فكما يقال خير الكلام ما قل ودل.

وفي ذات يوم كالعادة بدأت والدتي تُحدثني عن الحياة الأخروية، وأنا بكل رزانة وهدوء أنصت إليها، كيف لا وأنا أستمع إلى موضوع أجهله جهلا تاما، وأنتم تعلمون أن الأطفال الصغار يلحون كثيرا لمعرفة الأمور التي يجهلونها، فكيف لعقلي الصغير أن يتقبل هذا الموضوع الكبير بسهولة.

لذا ظلت والدتي في البداية تتحدث معي بأسلوب بسيط سهل سلس، وكأنها ببساطتها وسهولتها هاته تمهد لي ببساط أولي أسلكه حتى النهاية..

وفي كل استراحة أو وهلة صغيرة تتخذها أمي، أهجم عليها بمجموعة من الأسئلة كانت من بينها؛ كيف، لماذا، متى وأين؟ كل أساليب الاستفهام خطرت ببالي آنذاك!..

كان يومها الموضوع المختار للحديث عنه معنون تحت عنوان “الحياة الأخروية أو بالأصح “الموت”ـ هذان العنوانان لوحدهما كافيان لإثارة جدلا كبيرا في عقلي..

وكان سؤالي الأولي لأمي وبكل استغراب وشغف، أمي ما هو الموت؟

ابتسمت أمي بهدوء وكأنها تسكن العاصفة الرعدية الموجودة في ذهني، وقالت: الموت يا صغيرتي هو خروج أرواحنا من هذا الجسد الضعيف لتذهب عند بارئها، وتترك خلفها جثة هامدة توقف نبض قلبها ووظائف عقلها.

وللمرة الثانية أسألها؛ ثم تجيبني دون ملل ولا إعياء، كان سؤالي لحظتها من يخرج الروح يا أماه؟

أجابتني قائلة: من يخرج الروح هو ملك طاهر مثل طهر روحك خصصه الله تعالى بهذه الوظيفة، ألا وهي إخراج الروح من أجساد الكائنات اسمه عزرائيل أو ملك الموت، وتذهب هذه الروح إلى مكان يدعى البرزخ إلى أن تقوم الساعة، ويحاسب المرء ويعاقب أمام خالقه، وأنت تعلمين يا ابنتي أن الله جل في علاه موجود في السماء السابعة وحينها تذهب الروح إلى بارئها.

أما عن الجسد أو الجثة، فيقوم الأهل والأحباب بتشييع الجنازة التي يترتب عنها مجموعة من الطقوس كالتغسيل والصلاة على الميت ثم بعدها يحشر هذا الجسد تحت التراب..

وتنهدت أمي تنهيدة تحمل في طياتها حسرة وألم على من فقدتهم، بينما أنا توقف عقلي وذهني عن العمل توقفا تاما وانتابني هلع مريب..

أطلقت العنان لدموعي فأصبحت تنذرف على وجنتي الورديتين كإشارة لحجم الرعب الذي خلفه الموضوع في خاطري، ودون شعور ارتميت في حضنها وكأنني أستمد منها الخلود وعدم الموت، أتحمها وأحميها أيضا فأنا في تلك اللحظة كرهت الموت، بادلتني أمي جنتي على الفور العناق، وأضحت تداعب خصلات شعري الحريري البني، تزودني بااستقرار والطمأنينة وتريح نفسيتي من الحرب والتضاربات الموجودة في داخلي.

ثم قالت: لا تخافي ولا تقلقي يا حبيبتي، بالعكس يجب أن تكوني سعيدة ومسرورة، كما يجب أن تعملي خيرا وحسنا حتى تؤجري بتلك الدار فهي دار الخلد والراحة والسعادة، هناك ستجدين ما لذ وطاب من السكاكر والشكولاتة ومن ألعاب وفساتين، كل شيء خطر ببال صغيرتي، وما هذه الحياة إلا شقاء وتعاسة.

انتهت أمي من حديثها، لكن بالنسبة لي لم أحب كلماتها الأخرتين، لا وألف لا الدنيا كانت بالنسبة لي سعادة ومرح ولعب وسفر وعائلة وأصدقاء وكل شيء جميل.

ومع مرور الزمن بدأت أتعود على الأمر وفي نفس الوقت أتناساه، كبرت وكبر كل شيء، ذهبت أيام البراءة واللعب، أما عن سعادتي فكانت مثل القمر المكتمل لا تزورني إلا مرة كل شهر وسرعان ما تتلاشى وتعود الأحزان كما تعود المياه لمجاريها وأحلامي اللامنتهية.

استمرت الحياة ونحن وراءها نركض خلف تحقيق ذواتنا وأحلامنا، منزل وسيارة وزوج وأولاد وعائلة وملابس واكسسوارات وأناقة، سفر ورحلات، هذا هو الحلم، ربما كل هذا جميل ولكن لا شيء يدوم.. بل يتبخر شيئا فشيئا، فلا شيء إلا ما تم نقصانه، ها أنا الآن حققت وما زلت أحقق فيها وأسعى في المزيد من تحقيق أحلامي، ولكن فقدت الأصدقاء ﻷن الكل يسير حول مصلحته ومنفعته، وزدت إيمانا ووثوقا وترسخت قوة الاعتقاد في قلبي أن هذه الحياة إلا فناء وزوال ولا شيء يدوم وكما يقول المثل “دوام الحال من المحال”.

آااه؛ إني قد اكتشفت أن لا المال سيجلب السعادة ولا الهناء سيريح، فما الحياة سوى نفس منهمكة من الجري وراء ملذاتها، السعادة الحقيقة توجد عند الخالد جل قدره.

أتدرون؛ حقا أستغرب رغم سني؛ وأنا الآن في سن الحادية والعشرين أتمنى وبكل فرح أن ألقى مولاي ونفسي راضية مرضية مطمئنة ومنشرحة، لأني أيقنت بأن ليس لنا سوى الله الخالق.

فعندما تتحدث كثيرا مع البشر لا يتغير أي شيء ولا يحدث أي تغيير في الحياة، لكن عندما تلجأ إلى الخالق وتتحدث معه في ركوعك وسجودك قليلا، فيتيغير كل شيء أولهما الشعور بالارتياح هذا لأنه هو الله، الأقرب إلينا من أولئك البعيدين والله أحنُّ علينا من هؤلاء القريبين.

إذا كُن مع الله ولا تبالي بشيء، كي يكون الله معك، وزرع في قلبك الأبيض من بياض الثلج القناعة والتسامح ومحبة الخير للآخر، وطبعا وزرع في حياتك بين الحين والآخر بالصدقة الجارية، وأخيرا فلا تترددوا في العودة إلى الله مهما كثرت الخطايا والذنوب.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version