من رحم اللحظات القاسية

تلك اللحظة الفارقة التي يُخيل للمرء فيها أنه قد ظل طويلا يكد بلا فائدة، ويسعى بلا جدوى ويسير بغير وصول..

ويستبد به ذلك الشعور القاسي الذي يصل إليه البَحَّار التائه في عرض المحيط عندما تُطمس معالم خريطته ويُخيم عليه الظلام فلا يرى أمامه سوى الفراغ الممتد، فيُنكس رأسه ويكف من حينها عن التجديف بعد أن أدرك أنه قد ضل الطريق لا محالة..

تلك اللحظة الفاصلة التي تفتر فيها الروح وتوهن فيها العزيمة وتنسحق فيها النفس بعد صعود شاق وطويل ممتلئ بالمقاومات العنيفة.

حينها يفقد المرء آماله وتتبدد طموحاته وتخور قواه وتبدأ قدماه في الانزلاق.

ينظر خلفه فيدرك أنه قد صعد كثيرا جدا، وأن الانزلاق من هنا سيكون مروعا بحق، فيستجمع ما تبقى من قواه ويقرر أن يصمد لبضع لحظات أخرى..

ويرفع البحار رأسه المنتكسة ثم يقبض على مجدافيه بقوة ويشرع في التجديف من جديد وهو يلهث.. يعلم أنه لم يبقَ في ذراعيه من شدة سوى عدة ضربات أخرى يبطش بها بين الأمواج.. وعدة أنفاس باقية يشهقها بصعوبة قبل أن يسقط مغشيا عليه..

حينئذ يشعر الصاعد بأن يدًا رحيمة امتدت وأخذت تدفعه إلى الأمام حتى ترامت أمامه قمة الجبل التي شق من أجلها الأنفس.. فيظفر بالوصول..

ويشعر البحار بعد أن خارت قواه بتلك اليد الجبارة التي قبضت على يديه وأخذت تجدف معه حتى لاح له في الأفق أنوار خافتة منبعثة من بعيد، لذلك الميناء الذي تحطمت في سبيله مجاديفه.. فيظفر بالنجاة.

هي تلك اللحظة الرحيمة التي تولد من رحم اللحظات القاسية، مثلما تولد الشمس الساطعة من رحم الليل المظلم، ويتدفق الماء العذب من العين الموؤدة في جوف الصحراء.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version