(…) ضَمت دَفَتَّيْ الرواية التي كانت تقرأ فصولها بتمعنٍ إلى بعضهما، وأرسلت نظراتها قافزة من الأعلى؛ من سماء الوطن الذي ولد فيها قبل أن تُطلق حواسها الخمسة في منفاها القسري بـ ’’جزر الكناري‘‘، ومن الكُوة الصغيرة التي تتيح الرؤية إلى ما هو خارج الطائرة، أخذت تنظر إلى مشهدِ الشمسِ وهي تَشْنَقُ نفسها في حبال الغَسَقِ، وَيَتَشِّحُ الأُفُقُ بِصُفْرَةٍ عَنْدَمِيَّةٍ حزينة على لحظة الوداع الأليمة، تراقبها في صمت وهي تتدلى بعيدا ساحبة معها لحظات نهارها الذي كان سيكون الأول في وطنها، وتسحلها إلى ما خلف الكثبان الرملية الصفراء، تخيلت الشمس في جنازتها الأخيرة تشيعها غيوم فارغة من مُزُنٍ، وهي تسند رأسها على وسادة الأفق قبل أن تقذفها في عمق البحر في كورس جنائزي كأنه إسكندنافي..
تمتمت غيثة بكلمات في نفسها، كأنها تعاتب الزمن على لحظة الوصول الحزينة هاته:
أي نحس هذا؟، أصل إلى الوطن في الغروب، ولا تغازلني شمسه.. لا بأس عله قمره يتغزل بي، تضيف بتهكم.. فهي تعرف أن أشعة الشمس التي تناغي غزلها، لم تعد للوطن، فقد صارت تعبأ في الألواح الإلكترونية، وتباع طاقة بديلة ومتجددة..
ومن ذات الكوة التي يبدو منها العالم الخارجي بعيدا عن ضجيجه وصخبه كأنه لوحة فنية، تراءى لها الكثيب من علٍ كأنه تميمة نِيطت على الأرض التي شاخت شجنا، وأخذتها دهشة المنظر إلى مدرجات كلية العلوم بجامعة ’’لاس بالماس دي غران كانارياس‘‘، وتذكرت حصص الجيولوجيا، ووجه ’’خوسي بيل‘‘ الدكتور الفنزويلي الكهل، الذي كان يخشع في شرح مادته، وقوله ذات يوم أن الرمل يتكون من حبيبات معدنية ناعمة، تمتلك خواص طبيعية متنوعة، وهي مادة جمعت علوم الهندسة والبيئة والفيزياء وأيضا الجيولوجيا التي ندرسها لأهميتها، وتزايد إستخدامها..
فجأة خرجت من دير الذكرى إلى فضاء اللوحة الفنية التي تراها من كوة نافذتها، وقالت بشيء من حكمة نسجتها ببرد أرصفة المنافي وشقاء اللجوء:
طبيعتنا الصارخة تمنحنا بعريها فلسفة الحياة بسخاء، حبات رمل الكثيب وحدها في صمت أحيانا وفي صخب مور سوافيها تخنق منطق القبيلة المغلق؛ حبة رمل تضم أخرى ثم تودعها لتضم أخرى بإنسانية مفرطة دون أن تتخلى عنها الأرض رغم هروبها بسرعة جنونية، وهكذا إلى أن تضم الأرض ذراعيها نحو العدم وينتهي كل شيء في المطلق، ونحن نصر بغباء في حميتنا القبلية على أننا طين لزج يعانق بعضه بعضا ولا يقبل بغيره، حتى يصير جمادا ثم صلدا عدوانيا يقذف عنجهيته وجه الآخر..
من يستطيع أن يحدث هذه الحبيبات السائبة سيعرف بساطة كنه الحياة العميق، ولو تكلمت هي فهل سنستمع نحن بخشوع؟، أم تأسمنت آذاننا وجه أسرارها وتجلياتها؟ !!..
حطت طائرة ’’البويغ 737‘‘ التابعة لشركة ’’بينتر كنارياس‘‘ على شبه مطار مدينة العيون، في وقت لا زال ضوء الشمس فيه يتحشرج في كبد السماء لافضاً أنفاسه الأخيرة، تضاءت إشارات فك أحزمة الأمان، وأعلنت مضيفة من مكبر صوت الطائرة بأسبانية نقية عن إنتهاء الرحلة، والوصول إلى نهاية السفر الذي دام قرابة الساعة إلا ربع، من مطار’’غران كانارياس‘‘ بجزيرة ’’لاس بالماس‘‘..
وهكذا تتوقف الطائرة وتصمت محركاتها نهائيا..
شعرت بجسمها أصم وثقيل، كأن الدم تكلس ولم يعد يجري في عروقها، فهي لا زالت تحت وقع الأحاسيس المتنافرة فيها، والأفكار الزئبقية التي تتقافز في رأسها الساخن، رأسها الذي أنهكه التفكير وانتهكه المنفى الذي أخذ عمرا كاملا لفتاة ولدت فيه.. ولا تعرف عن الوطن سوى محكيات أمها عنه قبل الـ75، ومشاهد من صور لوالدها حملها معه في حقيبته، ورتبها جيدا بأناقة شاب طموح مع أشواقه وأحلامه، حين أكمل الدراسة الثانوية واتجه نحو ’’جزر الكناري‘‘ ليكمل تكوينه العالي، ولم يكن يظن أنه وحقيبته لن يعودا، وأنه لن يفتحها مرة ثانية على ذات الأرض، فقد اندلعت الثورة، وكان هو قد تأخر في الإلتحاق بها لأسباب دراسية وأخرى عائلية، فقد كانت ’’العالية‘‘ أم غيثة التي تزوجها قبل مجيئه بأمر من العائلة وبإيعاز من أمه ’’غَلِّي‘‘ خوفا عليه من بنات عيسى الناصري، تعاني مرضا حادا أضعفها.. وكانت الجبهة حين قرر الإلتحاق بصفوف مقاتليها تعيش حدادا صيفيا صاخنا على مقتل ’’الولي مصطفى السيد‘‘ في ’’هجمة نواكشوط‘‘، وكان ذلك صيف العام السادس بعد السبعين من القرن الماضي، وقد وصل المخيمات في ذات الوقت الذي ينعقد فيه مؤتمر الجبهة الثالث الذي حمل عنوان ’’لا استقرار ولا استسلام قبل العودة والإستقلال التام‘‘..
ضحكت غيثة في نفسها بألمٍ وهي تعود من وَسَنِ عُرُوجِ الذاكرة ذاك إلى صَحْوَةِ اللحظة، وهي تقول:
’’لا استقرينا ولا استقلينا ولا عاد أبي‘‘..
نهضت من مكانها كما فعل الكثير من الركاب المسرعين في الوصول، تنظر إليهم غيثة بعيونها النجلاء التي كستها هالة تعجب، ’’كأنهم هم من يستنكحه الشوق لا أنا!‘‘، قالت وهي تتناول حقيبتها مستعدة للنزول، بعد أن قذفت الطائرة ما كان بجوفها من ركاب، ونزلت درج الطائرة بهدوء ثقيل، وقفت على حافته تتأمل المكان، فقد كانت آخر النازلين، فبدت في وقفتها؛ كتمثال آلهة يونانية من مرمر خالص، وبدا جسدها الشهي بكامل ألقه لما هَدْهَدَ النسيم ملحفتها التي كانت تخفي نهدا شامخا، متكبرا ومتمردا، يتحدى قانون الجاذبية وهو يطل بعنفوان من تلة بطن موغل في الفتنة، بطن يستند بإتقان نحات أكلت التماثيل من عمره حصة الأسد؛ إلى أفخاذ ممتلئة وقوسي أرداف سهامها لا تخطئ سويداء القلب..
وعلى رقبة أفروديتية حريرية الملمس، تتلألأ تحت جدائل ضوء مهبط الطائرات الخافة خصلة شعر هاربة من أناقة قصته، تداعب القسمات المخملية المسيجة بإطار ثوب ملحفة ذات لون أزرق كالأفق، عمَّق من صفاء وجهها الطفولي الذي توسط الإطار المَلْحَفِّيَ، تاركا الغواية تتطاير بشررٍ من عيونٍ واسعةِ البياض حجازية الأبعاد، تسبح فيهما مقلة شيطانية فُحِّمت بسخاءِ مصور الخليقة، فأنف دقيق التفاصيل موغل في الدهشة، تحته مباشرة ينام على سفحه فاهٌ لَمَاوِيُّ الشِّفَاهِ، يتكبر عن الأحمر الخداع بجاذبية خاصة..
تمشي الهوينا خطوة خطوة، على أقدام حريرية النعومة كأنهما أقدام صبي في قِمَاطِهِ، تاركة جسدها البَضَّ يتبعها في تناسق تامٍ، حَرَكَةً بِحَرَكَةٍ، وينزلق وراءها في إيقاع واحد، كأنها وجسدها فرقة موسيقية تعزف سيمفونية الدهشة لتفاحة جمالٍ يشتهي كل آدمٍ قضمها خطيئةً لا يخشى عقباها..
ها هو أَدِيمُ أرضِ وَجَعِ الكلام والصمت، الأرض المُنْهَكة والمُنْهِكَة، بعد فرقة دهر، حَمَّلتْها غصة يُتْمٍ في طفولتها، وندبة لموت أمٍ على أرض لم تحبها ولم تكرهها..
وها أنا قد جئت باحثة عنه، فلا أجد إلا ممرا اسمنتيا وقاعة وصول صغيرة يتخبط فيها الواصلون بعبث..
وها أنا أخيراً أبدأ الرحلة التي قالت عنها صديقتي ’’ليلى المغربية‘‘، أنها ستكون ’’مدهشة ومثيرة‘‘..
كانت غيثة مضطربة بعض الشيء، تزحف بقلق متزايد نحو الشباك، تتصنع ثباتا شكليا يخفي دقات قلب يحاول الخروج من مخاوفه، يرعبها عدم السماح لها بالدخول كما حصل مع غيرها، أو إحالتها لغرفة جانبية ينبشون فيها ما تحت كثبان أصلها، ويعرونها حتى من تُبانها بالأسئلة، ويفتشون عن شيء تجهله في تلافيف ذاكرتها..
ماذا لو قررت الشرطة عدم دخولي، وهم الآمر الناهي، وإعادتي إلى الجزر؟..
يا خالقي، لا كل شيء سينهار!! ..
من رسائل شوقَ وحنينَ أمي، التي تنتظر من سنين ساعي بريدٍ أمينٍ يوصلها لأرضها، إلى حُلمي برؤية أرض أذاقتني جراحَ فراقٍ بعد الفِراقِ..
تتمتم، لا أنا عضوة في تنظيم الجبهة، ولا مقاتلة في صفوفها تحمل بندقية عنف الثورة، ولا أنا حقوقية تحمل غصن زيتون، ولا أي شيء من هذا القبيل، أنا مواطنة إسبانية من أصل صحراوي، جئت أوصل أمانة سلام أمي وقبلاتها للكثيب الكئيب، وأعود إلى روتينية عالمي الخاص، حالمي الحر والمستقل؛ بيتي، أصدقائي، كتبي، أبحاثي وعملي.. هي زيارة كريمة وأعود، مواطنة أوروبية فوق قطعة من الإتحاد الأوروبي على ظهر المحيط الأطلسي، تمارس مواطَنتها في سلام..
انتهى طابور الأجانب بسرعة، فقد كانوا قلة، فتقدمت غيثة برهبة ووجل..
تلقي تحية مسائية بطريقة نصرانية صافية كماء القداس، على شرطي الجوازات العشريني العمر، والذي فتح فاهه من خلف الزجاج، سهوا في تمثال جمال من شمع صافي، يتطلع بشبق إليها وهي تدفع جواز سفرها الإسباني عبر الكُوة النصف دائرية أسفل الحاجز الزجاجي المثقب..
يسحب الشرطي الذي مسه شيطان العذراء، جواز السفر، ويتلعثم بتحية مبهمة معجونة الحروف.. يقلب جواز سفرها بصمت، ويمضي وقت قبل أن يسألها بعينيه أسئلة ذات/ وبلا مغزى، يعبث بملمس الكومبيوتر، بينما تتابع غيثة أصوات طَقْطَقَةِ الملمس بصمت..
تتمتم لا خيارات لديه إما إدخالٌ بمعروفٍ إلى العيون، أو إحالةٌ بأدبٍ على غرفة المخابرات، أو تسريحٌ بإحسانٍ في ذات الطائرة!..
تَمْضي اللحظات بطيئة، قاسية، باردة، ثقيلة ومُقلقة..
’’هذه زيارتك الأولى للعيون؟‘‘..
غافلها بسؤال أنهى قلقها وترقبها الذي بدا أزليا..
تُحرك غيثة رأسها بالإيجاب..
تتابع الأسئلة وتليها الإجابات في سباق محموم نحو الدخول أو الخروج..
’’ماهو عنوانك في العيون؟‘‘..
تخرج غيثة ورقة دونت فيها عنوانا أملته عليها ’’مريم‘‘ بنت خالتها في آخر مكالمة تخبرهم فيها بموعد الرحلة، وتضعها أمامه من الكُوة النِصْدَائِرِيَّة..
’’منذ متى تقيمين في إسبانيا؟‘‘..
’’منذ ما قبل الميلاد‘‘، تجيب غيثة بعفوية..
’’مــــــــاذا؟!‘‘، يصرخ الشاب الذي ما أن رفع بصره حتى رده ثلج جمالها إلى برودة أعصابه..
تفهمه غيثة أنها ولدت هناك وأنها من قبل ميلادها وعائلتها هناك..
ااامممم، مَأْمَأَ الرجل وهو يعزف على ملمس الكومبيوتر..
‘‘مارأيك سيدة غيثة أنك بنت لرجل معاد للوحدة الوطنية، وعميل للجزائر، حارب القوات المغربية ضمن مرتزقة البوليساريو؟!‘‘..
توقعت هذا السؤال الذي كان سيكون بداية الخطو نحو غرفة المخابرات بلا أدب، وينتهي بطرد عنجهي، لكن الله سلم.. وسألها عن عملها في إسبانيا، لتجيبه أنها أستاذة محاضرة بكلية العلوم بجامعة ’’بابلو دي أولابيدي‘‘ بإشبيلية، وبجامعة ’’سان فيثينتي مارتير‘‘ ببلنسية.
يُقَّبِلُ جواز سفرها بختم الدخول، وخياله يسرح إلى شفاهِ الفراولة البَرِّية التي تتدلى تحت أنفها..
تشكره وتستدير باحثة عن حقيبتها..
خرجت غيثة إلى بهو المطار، متأبطة حقيبتها اليدوية، وتدفح حقيبة ملابسها، تمسح بنظراتها الفتانة جغرافيا المكان..
أطلقت خالتها ’’سلوكة‘‘ زغرودة فتحت ثغر السماء، واهتزت لها أركان المطار، فقد كان لها رنين يختلف عن باقي الزغاريد النسائية الأخرى، بسرعة براقية عرفت غيثة زغرودة خالتها فقد كانت توأمة لزغرودة أمها التي استقبلتها بها أمام بيتهم بأحد الأحياء العتيقة بلاس بالماس قرب ’’كاتدرائية القديسة آنا‘‘ وهي تسند ظهرها إلى بابه، وذراعاها مرفوعان بالشكر وصوتها مُهدَّج بالدعاء، وصدرها مفتوح يلم تهاني الجيران، يوم حصلت على المركز الأول على صعيد المدينة، في اجتياز امتحان الباكالوريا..
ألقت غيثة بجسدها البضِّ على صدر خالتها، وأخذت تشدها إليها بقوة الشوق والحنين، وتقبل رأسها وكتفيها وتقبل فيهما رأس وكتف أم رحلت بغصة وطن مفقود وزوج مغدور، وغرقتا في دموعهما معا..
خرج الجمع، وعند باب المطار خاطبت الخالة غيثة، بصوت أجهشه البكاء، انحني وقبلي الأرض.. فأجابت بصوت منهك ولم علي ذلك؟!!.. لا الأرض تحررت ولا أنا جئت إليها فاتحة!!..
معارككم وديونكم وكل أشيائكم لا تعنيني، جئت أتخلص من عبء دين أمي، وسأعود إلى الأرض التي ولدت عليها وأعطتني هويتها، وأحمل جنسيتها، سأعود إلى المكان الذي لا تضيع فيه كرامتي لأن الآخر في مخيلته أنه ابن خيمة مساحتها أكبر من مساحة خيمتنا، ولا أصمت فيه لأني امرأة!..
مضى الجميع إلى بيت العائلة الكبير بحي ’’كولومينا القديمة‘‘، هناك كانت كل جزيئات العائلة مجتمعة في إستقبال فرد منها، رحل في دهاليز رحم ابنة لم يعد منها سوى نعي موتها، ونطفة ماء لابن تأخر خبر استشهاده ممزقا تحت القذائف المسعورة زماناً..
نزلت غيثة من سيارة زوج الخالة تتملكها الدهشة، وتحملق بدقة متناهية في أسارير الوجوه، ومعالم المكان الذي لم يتغير كثيراً عن الصور المعلقة ببهو بيتهم هناك غرباً، البعض تعرفه من صور كانت تُبعث لهم مع مسافر إلى الضفة الأخرى من البحر الهادر، وأخرى كانت تَجمع تفاصيلها كما تشاء من أحاديث الوالدة، لكنها لم تطابق الحقيقة..
دلفت إلى الدار تزفها الزغاريد التي تشق الأفق بفرحة مغتالة، وأخذت تسلم ذات اليمين وذات الشمال، قبل ودموع، أحضان وأيادي تلوح في الزحام تعرف البعض وتجهل الأغلب..
مضت تلك الليلة على هذا الحال إلى وقت متأخر، والنقاشات والأسئلة حول القضية لم تنتهي، فشح الأخبار إلا من مذياع يضبط سرا على إذاعة ’’الجبهة‘‘، كان يتصدر المشهد، وفي رائحة اللاجئين كان يبحث القادمون عن خبر مفرح، لكن غيثة لم تكن معنية بتلك الأسئلة، فعلاقتها بالقضية انتهت بنهاية حياة أمها، التي كان البيت أيامها مفتوحا للجميع من مقاتلين سابقين وسياسيين، بل كانت تلعن في سرها من يضعونها في إحراجة الموقف، فجأة قفز إلى ذهنها المقطع الذي توقفت عنده في الرواية التي كانت تقرأها، وهي ’’مزرعة الحيوان‘‘ لـ ’’جورج اوريل‘‘:
’’وبعد أن امتعضت الحيوانات بسبب احتكار الخنازير اللبن والتفاح خرج إليهم زعيم الخنازير يخطب بهم قائلاً: أيها الرفاق، حاشى لكم أن تظنوا أن مبعث هذا الإجراء من قبيل الاثرة، فإن كثيرا من الخنازير لا تطيق طعم اللبن والتفاح، وأنني شخصيا من هذه الزمرة، لا، إننا مضطرون لذلك اضطرارا، فإن الغرض الحقيقي وراء هذا القرار هو حفظ حصتنا معشر الخنازير وفقا للاصول الطبية التي تحتم تقديم مثل هذه الوجبات إبقاء على طاقتنا الذهنية حتى نتمكن من مواصلة اعمالنا في التنظيم والادارة والاعمال المناطة بنا والتي تعتمد عليها المزرعة، فكما ترون أيها الرفاق: من أجلكم أنتم نشرب نحن اللبن ونأكل التفاح!
ألا تعلمون ما الذي يمكن أن يحدث لكم إذا ما فشلت الخنازير في مهامها الإدارية؟‘‘..
كانت تريد أن تصرخ ملءَ صخب حنجرتها وجه الجميع، وتقول: لقد ضللتم الطريق!!..
ضللتموه حين تحولت القضية إلى لقمة عيش، وضللتموه حين تحولتم من مقاتلين متحررين، إلى رصاص مسجون في بندقية الآخرين، ضللتموه حين بدأت رومنسية المناضلين وثورية المقاتلين تتحطم على صخور الواقع الصلدة..
بل لقد صرتم كما قال درويش ’’ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة، ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة!‘‘..
كانت تريد أن تتقيأ كل ما دلقت في جوفها طول العمر من فقد ووجع، وكل ما تعلمته رفقة طلبة ’’الحزب الشيوعي الإسباني‘‘ بالجامعة هناك بالجزر الخالدات، قبل تأثرها بشخصية ’’دولوريس إيباروري‘‘ الشهيرة بإسم ’’لاَبَاسْيُونَارْيَا‘‘، وبكلمتها التي أصبحت شعارا خالدا في صحف النضال ’’الأفضل أن نموت واقفين على أن نحيا راكعين‘‘، ومما قرأت من تاريخ الثورات العالمية، لكنها كبتت صرختها في دواخل نفسها، وبلعتها بمرارة، وهي تحاول قلب الأمر إلى مزاح غير مفْرَغٍ من صدق، حين إلتفتت إلى ابن خالها الذي يحاول أن يبدوا في هيئة المناضل الجسور، كي يظفر بإعجاب هاته الأفروديت العائدة من وراء البحر، إذ قالت في ما قالت قبل أن تستأذن الجميع للخلود إلى النوم، بعد تعب أمسية الإستقبال:
’’أنا لا أنتمي لكم إلا بالدم، تربيتي غير تربيتكم، تكويني غير تكوينكم، هويتي ليست هويتكم، ولن أتشظى بين وطن جئته غسقا، وبلاد أغرقتني في تفاصيلها وغرقت في تفاصيلي.. وأنا لا أحمل بداخلي شبه أنثى تدفن رأسها في التراب مثل النعامة حين تبصر ظل رجل لأنه يمثل لها ظل نَامُوس القبيلة، ولست على استعداد لأنتمي إلى أرض يتشح وجهها باللعنة المزمنة، وبكره دفين لكل المكبوتين الذي لعقوا في نهم صدرها البغي‘‘..
’’لا أريد أن أعيش معلقة بمصير أرض يفتح بها الصباح جراح السنيين والخداع، ويترك البرد يتلذذ بها، ينبشها بسادية وينهش منها بلا هوادة.. لا يمكنني أن أستصغي أثاث مشهدكم، من تابو فرج القبيلة إلى توتم قضيب شيخها الكريه، إلى كبت أبناءها وشبق بناتها، كل شيء يتداخل ليلفظ مشهدا حزينا يعيش موتا قريبا وحياة موغلة في البعد، كما لا يمكنني تقبل جهل ينام على سرير العقول، ورعشة الخوف من الوعي كأنه عبوة ناسفة، أو تهمة يهرب منها الكل كي لا يشوش أحد على راحة القبيلة، التي اتخذت من الأسمنت؛ أنفا تكسوه بمخاط السيف الدمشقي، وأمجاد الماضي المدنس، وطعم الدم المقدس.. لا يمكن أن أعيش عيشة خرجت من مفاصل العدم مشوهة مشلولة، وتشكلت على خارطة العبث كجسد مرتجف اقترف فاجعة ولا زال يستعيد آهاتها وتأوهاتها‘‘..
لا يمكن يا عزيزي..
’’ولا تنسى أيضا أنني لست معنية بهذا كله، أنا مواطنة من دولة أخرى و(تربية النصارى)، وتعاطفي معكم، إذا كان فهو يحمل صبغة كونية لا أكثر‘‘..
بهذه العبارة ختمت غيثة كلامها منهية حديث لا نهاية له، وهي تنهض مع الصبية ’’مريم‘‘ ابنت خالتها ’’العزة‘‘ كي توصلها إلى غرفة أعدتها العائلة لفتاتها الغائبة، والتي يبدوا من الليلة الأولى أن زيارتها؛ هشمت زجاج صورة أخرى غير التي كانوا يتخيلونها عنها..