ميتة وإن بدوت حية

أنت لا تستطيع أن تفكر في زحام!

قد تشرد قليلا ولكنك لن تغوص في أفكارك عميقا!

قد تطيل التفكير في شيء معين ولكن الأمر لن يأخذ منك وقتا كثيرا..

راودتني فكرة أن أهرب، لا أعلم إلى أين ولكنني كنت بحاجة إلى هذا الهروب من عالم صار مليئا بكل ما هو مؤذي.

ركبت في السيارة، أدرت المحرك واتجهت وحدي في طريق لا أعرف نهايته. وقفت في مكان لم يسبق لي أن لاحظت وجوده، أتعبني الطريق كثيرا، ولكن تعب الطريق يهون ولا يهون ما ألقاه علي المحيطين بي من تعب. أردت أن أرتاح، ساعة، ساعتين، لا يهم لأن الأهم أنه صار لزاما علي أن أنال قسطا من الراحة حتى تشرق شمس يوم جديد بعد ليل تراءى لي أنه طويل لن يمر بسهولة..

الليل في هذا المكان هادئ جدا، هدوء قاتل، صمت مريب، قرية وكأنها من كوكب آخر لا يمت للأرض بصلة.. ركنت السيارة ما أن لمحت فندقا أقضي فيه ليلتي، فاقتحمته بقوة وشجاعة يخفيان كل الخوف الذي بداخلي، ومن ثم استقبلتني سيدة كبيرة في السن بابتسامة لا تفارق وجهها، عاملتني بكل لباقة فارتخيت وشعرت أنني في مكان آمن وتلاشى خوفي الذي لا ينفع فتمت عملية حجز الغرفة بنجاح واتخذت منها مأوى لليلة واحدة سأصب فيها وجع كل الليالي التي مرت في حياتي لأتركها هناك وأعود من حيث أتيت بأقل الأضرار وأخف وطأة بعد أن أفرغ مني كل ما يثقل صدري ويكبس على أنفاسي.

أعددت كوبا من الشاي، وضعت علي غطاءا خفيفا يقيني من البرد الذي اعتاده سكان هذا المكان ولا مجال لفتاة مثلي أن تعتاده، ثم اتجهت نحو حديقة الفندق فجلست كالعقلاء لأمارس حقي في التفكير في كل ما لم يسعفني الوقت والناس في التفكير فيه، فكان أول ما فكرت فيه “هما” وكل أفكاري كانت تحيط بهما ولا شيء في ذهني وقلبي غيرهما، كما لو أنهما محور الكون وكل ما يشغل هذا العقل ويستوطن هذا القلب.

انتابني شعور بالقهر، أن أعيش شعورين نحوهما ذاك كان تيه من نوع آخر، نوع ربما لا يشعر بمرارته سواي.

حينما يخذلك شخص ما يصبح لزاما عليك أن تتجاوز الأمر مهما بدا الأمر مؤلما، ولكن حينما يخذلك شخص راهنت على أنه لن يخذلك ولو توفرت أمامه كل السبل التي تدفعه لخذلانك، فإنك حينها لن تتجاوز الأمر لصعوبته التي لن يقيس حجم توجعك منها غير الذي تأذى بعمق..، عمق يعادل عمقك أو يفوقه، خذلاني بقوة، خذلاني بلا مقابل وهذا ما لم أقوَ على تقبله، وهذا ما يدفعني إلى كرههما بقدر حبي لهما، وحبهما بقدر كرهي لهما.

فيما مضى كانوا يقولون لي أنهم أموات على قيد الحياة وكم كنت أتعجب لكلام لا أساس له من الصحة، أتعجب منه لأن عقلي المحدود ليس بوسعه أن يستوعبه، وكم سخرت من هؤلاء، لوهلة اعتبرتهم كمثل أولئك الذين يصرون على العيش بضعف على أشياء لا تضعف، كمن يضع نفسه في موضع الضحية ليراه الناس في ذلك الموضع بغية التعاطف معه أو الشفقة عليه، كنت أراهم وكأنهم يتفاخرون بضعفهم، في حين أن الضعف لا يدعو للفخر، هو فقط يقتات منك الكثير يوما عن يوم..

كنت أجد أنه من الغباء أن يموت الإنسان وهو ما زال على قيد الحياة، ولكنني أدركت قصدهم متأخرة، ربما كان علي أن أنال نصيبي من الوجع لينتابني ذاك الضعف وأستوعب جيدا ما قيل كي آخذه على محمل الجد، فما فائدة جسدك المتحرك إذا كان كل ما يسكنك في الداخل قد ودع الحياة والحياة أبت أن تودعه فعلا، كيف لي أن أتصنع الحياة والحياة ما عادت ملكي؟ نعم أدركت كيف يعيش الإنسان هكذا وكيف استخدم جسده وسيلة ليخفي الغاية الحقيقية التي كان يمارسها القلب والروح والإحساس معا.. لم يكن سهلا علي أن أعترف بحقيقة موتي، ولكن الخذلان قاتل، قاتل جدا..

أنا اليوم حية ولكنني ميتة، ميتة وإن بدوت حية!

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version