الموت هو الحقيقة الثابتة في هذه الدنيا، الحقيقة التي ليس بوسع أي مخلوق على وجه الأرض أن يدعي عكسها وإن حاول. هو الشيء الذي نخافه جدا، نفكر فيه أكثر مما نعمل من أجله قبلقدومه لأخذنا معه، هو الشيء الذي نهابه حقا، ونرتعب كثيرا من فكرة أن يمسنا أو يمس أحدا من أحبابنا…، هو الشيء الذي ندركه ولكن لا نُدرك ميعاده، لا نُدرك الترتيب المسطر بعناية في قائمته، نُدرك أنه يأخذ الجميع دون أن يأبه لأي شيء في الدنيا. يأخذنا لأن رحلتنا على كوكب الأرض انتهت، وأن حياتنا فيها لم تكن سوى مؤقتة لأجلقد حان فعلا وأخيرا.
المهول في الأمر ليس الموت في حد ذاته…، بل في تجاهلنا للأحياء قبل أن يصيروا أموات. في كمية الإهمال التي نُغدقها عليهم ولا نلتفت لواقعية وجودهم إلا بعد رحيلهم، لقسوتنا البشرية التي لا أرى أقسى منها في الوجود. لإدراكنا المتأخر أنهم كانوا هنا ذات يوم، وتلك كانت طباعهم، وهذا ما كانوا يحبونه…
لاستحضار تفاصيلهم بعد غيابهم، لاهتمامنا بهم بعدما كساهم التراب.
الموت يوجعنا، يوقظ الغافي فينا، يؤنب ضمائرنا، يُخبرنا كم كنا مستهترين بوجودهم، يعلمنا درسا متأخرا لا ينفك أن يقتلنا ببطء شديد، درسا مفاده أنه كان بوسعنا أن نمنحهم المزيد من مشاعرنا إثر حياتهم…، ولكن جرت العادة أن نفعل ذلك بعد فوات الآوان، بعد أن نَفذ الوقت، وما عاد بقدرتنا أن ننتشلهم من الموت، أن نحميهم منه رغم استحالة ذلك، أن نستعيدهم، أن نركض صوبهم لاحتضانهم، لنخبرهم كم نحن نحبهم، ونعتذر منهم على كل شيءوحتى اللاشيء. غير أنه ما عاد يُسعفنا ما كان من المحتمل أن يُسعفنا. لقد رحلوا للأبد، وها نحن بوجع نحاول أن نستوعب قسوة رحيلهم.
عشتُ وجع رحيلكِ أنتِ على وجه التحديد. عشته بكل حذافيره، في وقتٍ كان بوسعي أن أعي روعة وجمالية وجودكِ في حياتي قبل أن تغمرني الحسرة من جراء فقدانك، قبل أن أتعب، لأني أتعبتكِ وأنتِ تؤدين ضريبة اختياركِ لي وزواجكِ مني من جيب قلبكِ النازف بسببي وعمركِ الضائع مع رجل أقل ما يُقال عنه أنه رجل ظالم.
أعلم أنكِ رحلتِ قبل هذا اليوم، وربما تعاملتُ مع ذاك الرحيل على أنه مؤقت، وسأستعيدكِ.
أيقنتُ أنكِ غاضبة، واعتقدتُ أنه بمجرد أن يهدأ غضبك، ستعودين. ولكن لم يحدث أن عُدتِ.
في تلك الليلة التي تمردتِ فيها علي وأطلقتِ العنان لكل ما يختلج صدركِ، حينما هاج بحر تحملكِ، ورفعتِ صوتكِ كما لم يحدث من قبل، قائلة بنبرة حاسمة لكل ما بيننا أننا انتهينا، راجية مني طلاقا لا رجعة فيه، كان هناكَ بصيص أمل أن تتراجعي عن ذلك، أن تعودي وتغفري، قبل أن يتضح لي أنكِ لن تفعلي.
أخبرتِني في آخرمرة رأيتكِ فيها ” بينما هناكَ أخطاء تُغتفر، هناك أخرى يَصعب أن يطالها الغفران، وأنا لن أغفر لكَ حتى بعد أن يأخذَ الله أمانته، لن أغفر لكَ مطلقا.”
لم تغفري، وكنتِ مصرة ألا تفعلي. لا ألومكِ فهذا من حقك.
ومن حقي أيضا ألا أغفر لنفسي كل لحظة استضعفتكِ فيها، وفي المقابل استقويتُ عليكِ كما لو أنكِ لستِ مني.
“بعض الحب مذلة” عبارتكِ القاتلة بَقِيَتْ تنخر قلبي..
قُلْتِها وأنتِ على وشك المغادرة، لم تأخذي معكِ ما يُذكركِ بي، فليس هناك ما يُذْكَر سوى أوجاعٌ متفاوتة في حدتها..، هاربة من وحش يُحبكِ بطريقة جنونية، متهورة، بغيضة، مزعجة…وربما مريضة.
كانت نظرتكِ حينها مملوءة بالحقد، وكان كلامكِ قاسي جدا، وبدا رحيلكِ أقسى بكثير، ولكن ما من شيء يضاهي قسوتي عليكِ. أعلم ذلك.
لم أقصد أن أسبب لكِ الأسى، يهمني حقا أن تعلمي أني لم أقصد أن أكون بمثابة رجل تجهلين ماهيته، تنظرين صوب عينيه، تغوصين في أعماقه، وإذا بكِ لا تتعرفين عليه من يكون. أنا فقط أحببتكِ على طريقتي، مهما بدت طريقة مؤذية، مضطربة، خائفة، قاتلة، تغيب عنها كل معالم الحب. ولكني أحببتكِ لدرجة الإعتقاد أنكِ خالدة، دائمة الوجود، وستظلين معي للأبد، حتى ولو كان الأبد معي جحيما.
يزعجني من رحيلكِ الآن أنه تحول إلى رحيل أبدي وحقيقي. بارد وموحش. أيقظ الندم بداخلي، وجعلني أعترف أن موتكِ الحقيقي كان على يدي أنا، وما نبأ وفاتكِ في حادث سير سوى كذبة وتضليل للحقيقة.
يزعجني أننا في السابق كنا نتنفس الهواء ذاته، يحتضننا وطن واحد، نعيش تحت سماء واحدة، نتحرك فوق أرض واحدة، وما يفصل بيننا مجرد شوارع ومنازل يمكنني هدمها وتدميرها كلما رن جرس الشوق.
كان يُسعدني مجرد رؤيتكِ صدفة، بينما الآن كل الصدف باتت مستحيلة، صرتِ بعيدة، بعيدة جدا، والمسافة التي صارت تفصل بيننا موتٌ وحياة.
تأخرتُ كثيرا لأدركَ ما أدركته بَعدَكِ، وأعلم أنكِ من هناك تلاحظين باستياء أن الموت وحده منأيقظَ مشاعري…، ويا ليتَ لو حدث ذلك بأي طريقة آخرى، دون أن تكون النتيجة، خسارتكِ.
تزاحم الألم في صدري يا امرأة.
فجئتُكِ من حيث افتقدتكِ أنام على قبركِ من شدة وجعي.
سلام عليكم اختيار يحتوي على ايقونة هادفة تكشف جمال ذوقك
3>