مدوناتمدونات الرأي

نازلة ولد مخيطير – الجزء الثاني

لقراءة الجزء الأول من التدوينة اضغط هنا

الردة في الشرع

اعلم أيها القارئ -حفظك الله- أنني لا أزعم العالمية ولا أتصدى للفتوى لمعرفتي بمحدودية معارفي الشرعية التي تجعلني أبعد ما أكون عن مراتب الاجتهاد والفتيا ولذلك ليست عندي القدرة ولا الرغبة على تقمص دور الفقيه، وهو الدور الذي يستسهله الكثيرون، لكن من حقي الشرعي كمسلم حريص على عزة الإسلام ورفعته أن أتساءل وأن أستفهم… لا أن أنكر المعلوم من الشرع أو أن استنكره.

من المعلوم عندي -بل من المسلم به- أن الردة، جريمة جنائية، يضعها جل العلماء في خانة جرائم الحدود وهي العقوبات التي يوكل أمرها للسلطان إن شاء أقامها وإن شاء عطلها..

ويعتبرها بعض العلماء غير ذلك بل يفرقون بين الردة العسكرية التي يحمل صاحبها السلاح والردة الفكرية المسالمة ويقولون بأن عقوبة الأولى القتل حداً ويزعمون أن عقوبة الثانية أخروية لا دنيوية.

لقد خلق لي تعريف العالم والعلماء إشكالاً ابستمولوجياً وفكرياً، فمن هو العالم ؟

بكل صراحة لا أعرف كيف يمكن تصنيف المقامات العلمية بواسطة الانطباع فقط، حيث ألاحظ في هذه البلاد أن ميول التجديد والتميز عن الرأي السائد تؤدي تلقائيا لسحب صفة العالم..

في حين يصبح تكرار الشائع والرائج رافعة إلى المقامات العلوية، وأجد أن هذا النوع من التصنيفات منحاز بطبعه وعاطفي وغير موضوعي لأنه يتخطى الضوابط الشرعية المعروفة، ويتغافل عن المنهجية العلمية الأكاديمية الموضوعية.

لقد دخلت ذات مرة في نقاش مع أحد فقهاء الإخوان المسلمين وكان يعطي للمرحوم حسن البنا صفة العالم ويسحب نفس الصفة من المرحوم جمال البنا، وقد استغربت كيف يمكن سحب هذه الصفة من رجل عاش قرناً كاملاً من البحث والتأليف ومنحها في ذات الوقت لشخص آخر كل كتبه مؤلفات قليلة أقرب ما تكون للبروباغاندا الحزبية.. وسبب استغرابي هو خشيتي من اعتماد الهوى كمعيار شرعي لتصنيف العلماء؟

في موريتانيا يمكن وصف شخص ما بصفة العلامة، وحين تنقب عن تصانيفه ستصدم من قلتها وإن وجدتها ستجدها تشرح المشروح وتلخص المعروف وتحذلقه وتكرره… أي أنها لا تضيف جديداً ولا أدل على ذلك من إنشاء كبار العلماء لمركز يتكفل بتكوين العلماء.. وهو عنوان يشي صراحة بقلة زاد بعض العلماء وحاجتهم للتكوين والدراسة وإلا لما قام كبار العلماء بالتفرغ لتدريس العلماء وتكوينهم!

في نفس المضمار نجد أن أغلب أهل العلم مستعد لسحب صفة العالم عن العلماء الذين يخالفونهم في الرأي والاجتهاد وأعتقد أن الأسلم هو احترام كل عالم مسلم..

فالشرع حفظ للعلماء جميعاً مقاماتهم وحرم العدوان عليهم بل حفظهم من أنفسهم ووعدهم بالأجر في حالتي الخطأ والصواب، وتتضح حصانة العلماء في شرع الله على بطلان إقامة الحجة على العالم بأفعاله.. وتلكم هي أكبر حصانة فكرية في تاريخ الحضارة الإنسانية.

في موريتانيا تحديداً ينزعج الكثيرون من آراء واجتهادات علماء كبار مثل الدكتور محمد بن مختار الشنقيطي والدكتور محمد المهدي محمد البشير، ويحق لي أن استغرب كيف يمكن نكران صفة العالم على شخص درس العلوم الشرعية واللغوية المعتمدة في محاظرنا وجامعاتنا ونال شهادة الدكتوراه في الشريعة من جامعات عتيدة وقبلته جامعات دول إسلامية عريقة للتدريس فيها ونشرت كتبه في كبريات دور النشر بسبب رأي قد لا يعجب زيدأً أو عمراً من العلماء ؟

من الفخاخ الظريفة التي يذهب إليها التقليديون هنا هو وصفهم هذا الصنف من العلماء بالمفكرين وهي صفة مطاطة مرنة يدخل فيها الأديب والفنان والفيلسوف وتتقصد سحب عباءة التشريع والاجتهاد عنهم بل فيهم من تخطى حدود وآداب الخلاف، وراح يكفر كل صاحب رأي يختلف مع المعروف عنده أو عند العامة!

لهذه الأسباب ومن باب احترام الرأي الآخر، سأسرد عليكم النقاط الواردة في اجتهادات الدكتور محمد بن مختار الشنقيطي -حفظه الله- حول الردة، وأسردها لا تفضيلا له على غيره وإنما من باب الاحترام المطلوب لكل العلماء، وآراء الشنقيطي -في مجملها- تتناغم مع ما ذهب إليه علماء كبار من قبله على رأسهم الإمام المجدد الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وتلميذه محمد رشيد رضا وجامع الشريعة بالحقيقة الإمام الأكبر محمود شلتوت والداعية التونسي عبد الفتاح مورو والباحث المدقق جمال البنا والفقيه السوداني حسن الترابي.. ولفيف عظيم ومتزايد من علماء الأمة، يقول الشنقيطي :

“من أعظم المبادئ الإسلامية التي فرَّط فيها المسلمون على مرِّ القرون .. ويبقى باب منع الإكراه في الدين..”

وردت آية (لا إكراه في الدين) بصيغة من أعم صيغ العموم في اللغة العربية وهي النكرة في سياق النفي والنهي.. مما يعني شمولها لكل الأحوال: ابتداء، واستمرارا، وانتهاء..

عجباً ممن يسألنا ماذا فعلتم بحديث آحاد ملتبس المعنى (من بدَّل دينه فاقتلوه)، ولا يسأل نفسه ماذا فعل بآية محكمة: “لا إكراه في الدين”.

القطعي (القرآن الكريم) مقدم على الظني حديث الآحاد عند العقلاء، فضلا عن العلماء، والترجيح عند التعارض واجب، وأي تعارض أكبر من حكم تترتب عليه موت أو حياة؟

التمييز بين التسامح ابتداء والقتل انتهاء تكلف وتناقض، وقد وردت الآية بأعم صيغ العموم في العربية كما رأينا النكرة في سياق النفي والنهي.

أي الكسبين تفضِّل بين يدي ربك: إزهاق روح بحديث آحاد، أم إحياؤها بآية محكمة؟

ليس قتل المرتد سوى مصيبة من المصائب الفقهية في تاريخنا التي قاد إليها نبذ القرآن وراء الظهور، وجعل الشريعة خادمة للدولة، بدل العكس المفترض.

من جاهَر بالردَّة في مجتمعاتنا فواجبُنا أن نُجاهر بدعوته إلى الإسلام، وليس من حقنا أن نقتله، فربنا عز وجل يقول لا إكراه في الدين.

لو كان ما وقع من قتل للمتمردين في عصر الصحابة حدا شرعيا لما صح تنفيذه دون تقاضٍ.

ولم يرد تقاض الردة في عهد النبوة أو الصحابة.

الردة موقف فكري بحت، وليست تحريضا على شيء، إلا إن دعا صاحبها الناس إليها، فعندها تجب مقاومة الفكرة بفكرة التمييز بين الكفر بالمولد والكفر بالردة يعني أننا نجعل من الجرم أن يولد الإنسان مسلما.

عجبا لمنطق فقهي يؤمن بإكراه المسلمين في الاعتقاد وبحرية غير المسلمين في الاعتقاد.

كانت حروب الصديق ردا على التمرد العسكري على السلطة الشرعية ومنع حقوق الفقراء، ولم تكن لإكراه الناس على الرجوع إلى الإسلام.

الردة أعظم الذنوب في الإسلام، لأنها هدم لأساس الدين، لكن الإسلام لم يضع لها عقوبة دنيوية، لأن الإكراه يجلب النفاق لا الإيمان.

صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله بعدم قتل المرتد المتمرد بعد القدرة عليه، وذلك في قصة الرهط من بني بكر بن وائل.

قال عمر فيهم: “لأن أكون أخذتهم سِلْما كان أحب إليَّ مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء… كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه.”

النفاق كله شر، وهو شر من الكفر الصراح الخالي من النفاق..

أنكر اثنان من أعلام التابعين هما الثوري والنخعي حد الردة وقالا بالاستتابة أبدا.

المشهور عند الأحناف عدم قتل المرأة بالردة لأنها لم تكن مقاتلة في المجتمعات القديمة، وهو تمييز موفق بين التمرد العسكري والموقف النظري.

قال عمر بن الخطاب بسجن المرتد في خبر صحيح، وهو ما يعني أن الأمر ليس حدا في فهمه، أما التعزير فهو أمر اجتهادي ومصلحي.

الاستتابة تحت الضغط مجرد اجتهاد لا يدعمه نص، وتكفي الدعوة للمرتد ولغيره بالحكمة والموعظة الحسنة.

الردة نوعان: فكرية وعسكرية.

الأولى لا عقوبة عليها في القانون الجنائي الإسلامي، والثانية لها عقوبة تعزيرية تقدرها السلطة الشرعية العادلة.

علة التعزير على الردة العسكرية تفريق صف الجماعة، فهي عقوبة على الجريمة المصاحبة لتغيير الدين قديما، لا على تغيير الدين.

عقوبة الردة عن الدين الحق عقوبة أخروية عند الله تعالى، وهي أغلظ من أي عقوبة دنيوية يتخيلها البشر، لكن لا عقوبة دنيوية على ذلك.

لفظ الردة في عهد النبوة كان يستخدم استخداما واسعا لا يقتصر على معناها الاعتقادي الذي شاع في كتب الفقه. ومن ذلك أما سلمة فقد ارتد عن هجرته.

قتال المرتد المحارب لا يعني قتل المرتد المسالم، وهذا تمييز قديم عزاه ابن حزم إلى طائفة من أهل العلم.

لا يصح أصلا عن أبي بكر أنه ظفر بمرتد عن الإسلام غير ممتنع باستتابة فتاب فتركه، أو لم يتب فقتله، هذا ما لا يجدونه ابن حزم: المحلى.

القول بأن الإكراه محصور في الإكراه على دخول الدين ابتداء، وأن الإكراه على الرجوع إلى الدين غير داخل في النهي الوارد في الآية.. تكلف بارد.

المنافق المعلوم النفاق أفضل من المنافق المستتر وأقل ضررا وخطرا على الإسلام.

الخلاصة

لا إكراه على الدين ابتداء ولا استمرارا ولا انتهاء، ولا عقوبة دنيوية للردة في الإسلام، فتمسكوا بكتاب ربكم ودعوا بنيًّات الطريق…”

كما سبق وأسلفت لا يتفق هذا الصوت الشنقيطي المنطقي مع الرأي السائد عند فقهاء موريتانيا من الناحية النظرية –على الأقل- فجل علماء القطر يقولون بوجود عقوبة دنيوية للردة لكن الخلاف في أنواعها محتدم ومنهم من يقبل الاستتابة التامة ومنهم من يمنعها في بعض الحالات وسنبين ذلك لاحقا.

قد يتصور البعض أنني ألوذ بالشنقيطي لتمرير فكرة مسبقة تتقصد إنقاذ عنق ولد مخيطير من حبل المشنقة ولذلك سينفون عنه صفة العالم التي نالها بالسهر والكد والتأليف، وسينفونها عن الإمام محمد عبده مفتي مصر وعن عشرات العلماء الذين يخالفون المكتسب الفقهي الذي يتمسكون به، على كل حال سأجادلهم بالحسنى قائلا دوماً: إن خلافات العلماء رحمة ربانية لنا – نحن الجهلة الفقراء- ومكسب حضاري لن نتنازل عنه وهو مكسب لا يحق لأحد أيا تكن شهرته الالتفاف عليه أو طمسه.

السوابق القضائية

السوابق القضائية معروفة في الفقه الشرعي والقانوني، وهي الدليل المادي الذي يوفر التواتر والثبوتية إذ هي حالات تطبيقية معروفة وتاريخية وتنقسم إلى خانتين كبيرتين بالإيجاب والسلب وبعبارة أكثر وضوحاً خانة الحالات التي حكمت فيها المحاكم بإعدام شخص ما بسبب الردة وخانة امتناع المحاكم عن تطبيق الحد في من ثبتت ردته بالدليل والبرهان.

هنا أسجل عجبي.. فبعد مراجعة كتب التاريخ لم أجد محاكمات أفضت لقتل مرتد سوى ثلاث حالات فقط وعلى مدى خمسة عشر قرناً متتالية من الحياة القانونية الإسلامية مقابل ما لا يحصى من حالات عدم تطبيق هذا الحد والتوقف عند التعزير!

هذه الحالات هي إعدام الشاعر بشار ابن برد وإعدام المتصوف الحلاج وإعدام المفكر السوداني محمود محمد طه فقط !

تشترك هذه الحالات في وجود أبعاد سياسية وجهت المحاكم وجعلتها منحازة.. ولا تصلح للاستدلال كسوابق عدلية.

في حالة الشاعر بشار ابن برد ثابت في كتب التاريخ ان الخليفة المهدي الذي أمر بقتله كان يحقد عليه منذ عقود طويلة بسبب مكانته و نفوذه ومن المعروف عن بشار هجاؤه للخليفة المهدي بعد أن منعه من أعطيات تعود عليها في عهود أسلافه وليس بداعي الردة أو الزندقة التي استشفها قاتلوه من تغنيه بالنار وتفضيله لها على العناصر الأخرى.

لا يخفى على أي مهتم بتاريخ الفقه والقضاء أن قضاة بني العباس قد وصلوا ومنذ عهد الرشيد إلى اجتهاد رائع يقول بعدم صلاحية الشعر كدليل إدانة ورفضوا تطبيق حدود الردة والزنا وشرب الخمر والغلمنة على من جاهر بها في شعر مهما كانت صراحته بل درجوا على اعتبار تصنع التقوى في الشعر مزرياً بالشعر والشعراء نزولا عند الآية الكريمة التي تجعل أقوال الشعراء غير مصحوبة بالفعل ونزولاً عند ذم النبي صلى الله عليه وسلم لخصي الشعر.

في ذلك العهد الزاهي والذهبي للحضارة العربية الإسلامية اتفق القضاة على أن فنون وآداب الغواية تدخل في نطاق الشعر وقاسوها عليه ، وبذلك وجد الفلاسفة المجال مفتوحاً للتفكير والجدال وبهذا الاجتهاد القضائي أصبح الفلاسفة هم “الغاوون” الذين ينسحب عليهم ما يحصل للشعراء من هيمان وتفكر وتبعاً لذلك صار كلامهم خارج دائرة البرهنة والاستدلال. اعتقد أنه لولا وجود هذه الصيغة لما وصل العرب لما وصلوا إليه من ازدهار فلسفي وفكري ولنصبت المشانق في كل حي ودسكرة…ومما يدخل في نفس السياق أنه رغم انحراف بعض قيادات الحكم العباسي الذين انتهوا بحرق كتب المتكلمة -سداً للذريعة- يسجل التاريخ امتناع قضاة بني العباس عن الحكم عليهم بعقوبة الإعدام !

إن العقل العربي المتفتق بالعبقرية دائماً، ابتدع ومنذ القدم، ألف طريقة وطريقة للالتفاف على القيود الاجتماعية والفكرية بذكاء لا يوازيه ذكاء أي حضارة بشرية أخرى. وهنا لا أستطيع منع نفسي من التساؤل عن مغزى توافق العرب ومنذ القدم على أسطورة وادي عبقر الذي تسكنه الجن.. وهل يمكن فصل هذه الأسطورة عن أسطورة الجني القرين الذي يقذف إلى الشاعر درره بل وكيف اختلقوا أسماء لقرناء الشعراء وما الفائدة من هذه الأساطير التي يرفضها العقل وتستحيل البرهنة عليها؟

الهدف الجلي الواضح من هذه الأساطير هو فصل الكاتب عن المكتوب صيانةً لحرية التفكير وضمانةً لحرية الإبداع، نعم فقد فهم عرب الجاهلية – وهم قوم سذج تكبلهم الأمية الأبجدية- انه بدون حرية فكر لن توجد حضارة فرفعوا عن شعراء زمانهم تكاليف ومسؤوليات أقوالهم ومنحوهم حصانة مطلقة وأتى الإسلام ليوطد حرية الفكر والإبداع فمنحهم الحصانة سالفة الذكر وهي الحصانة التي انتهكت وبوحشية يوم قتل بشار ابن برد تحت سياط احد ولاة المهدي… وهنا لا مناص من التذكير بتعريفنا للشاعر حيث أعتقد أن الشاعر ليس فقط صاحب الكلام الموزون المقفى وإنما هو صاحب الشعور المتفكر في الكون والناس!

وهو من يعرف في زماننا بالمثقف !

تثبت كتب التاريخ أن الفيلسوف والمتصوف الحلاج كان رجلاً تقياً ورعاً وكان يعتقد أن الجوهر أهم من الظاهر وتتلخص فلسفته في قوله:

النقطة أصل كل خط، والخط كلّه نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف هو متحرك عن النقطة بعينها، وكلّ ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئاً إلاّ رأيت الله فيه.

هذه الأقوال التي تعرف عند أتباع ابن تيمية بالحلول ووحدة الوجود لم تعجب الفقيه محمد ابن داود واعتبرها كفرا بواحاً وطالب بمحاكمة صاحبها فنزل عند رغبته القضاء وقد لعب الوزير حامد ابن العباس دوراً كبيرا في تحريض الخليفة المقتدر ضد الحلاج فحُكم عليه بالإعدام وصلب –رغم حرمة الصلب- على باب خراسان ببغداد.

يذهب جل المؤرخين إلى أن الحلاج كان ينسق حراكاً اجتماعيا التف عليه كثير من الفقراء فتوجست السلطة الحاكمة خيفة من تكتل الفقراء حوله، وعزمت على التخلص منه لأسباب سياسية وليس لسبب ردة أو كفر.

رغم إعدامه حداً وكفراً.. لا يمكن اعتبار ردة الحلاج محل اتفاق بين المسلمين فقد رفضها الشيخ عبد القادر الجيلاني وأعتبر الشيخ الشاذلي أن القول بها يعيب العلماء ويقدح في صدقهم مع أنفسهم ومع الله.

وهذه السابقة القضائية لو تم الأخذ بها في أيامنا هذه لحاكمنا وقتلنا أكثر من نصف سكان موريتانيا بسبب ميولهم التصوفية والفلسفية المشابهة.

السابقة الثالثة والأخيرة هي حالة المتصوف السوداني محمود محمد طه شيخ طريقة الفكرة الجمهورية الذي حاول إعادة النظر في أصول الشرع وله قول في وجوب مصالحة إسرائيل واجتهاد مشهور برفض تطبيق قوانين سبتمبر المشتملة على الحدود بحجة أنها تشوه الإسلام وقد تؤدي إلى انفصال الجنوب المسيحي عن الشمال المسلم، كما يقال عنه امتناعه عن الصلاة مع الناس وصيامه الطويل الذي أسماه بالصيام الصمدي.

هذا الرجل الذي قتله القضاء السوداني، عاد القضاء السوداني نفسه ، وحكم ببراءته، وبذلك صار حسب القانون السوداني رجلاً تم اغتياله خارج الشرع من قبل جعفر نميري.

إذن وبكل صراحة لا توجد سوابق قضائية متواترة يمكن الاعتماد عليها لدراسة تطبيقات هذا الحد عبر التاريخ.

السبب في قلة السوابق القضائية – بل في انعدامها- يعود في الأساس إلى عظمة الشريعة الإسلامية نفسها التي اشترطت قبل تنفيذ الحدود شرطين هامين لا جدال حولهما وهما آمرية درأ الحد بالشبهة والصلاحيات الحصرية للسلطان في تنفيذ أو عدم تنفيذ الحد.

اعتبرت الممارسة القضائية الإسلامية -عبر العصور- قول الرسول صلى الله عليه وسلم “..ادرءوا الحدود بالشبهات” قاعدة قانونية آمرة تجعل من واجب القاضي التقصي عن أي شبهة لتجنب تطبيق الحد!

أمام أي نص مكتوب ألزم الشرع القاضي بالبحث عن تأويل مهما كان ضعيفاً بغية تعطيل الحد وهنا أجد من الضروري التذكير بأن كلمة شبهة في لسان العرب لا تعني جزماً الدليل المقنع وإنما ما يشبهه أي المحتمل مهما تضاءل حجمه ، وتلك نقطة رائعة تقدمت فيها منظومتنا الشرعية الإسلامية على كل القوانين الوضعية في ميدان الرأفة والبحث عن أحسن المخارج.

انتماء ولد مخيطير لفئة المعلمين المضطهدة، وكتابته عنهم بهذه الحسرة المنطلقة من كل عقال، يستتبع شبهة المرض النفسي للأسباب سالفة الذكر ومن المعروف أن الشرع رفع القلم عن المختل نفسيا.

لا يفوتني هنا أن أنوه بذكاء القاضي السعودي الذي عاين تغريدات الصحفي السعودي حمزة الكشغري المتهم بالردة ، وتغريدات الكشغري بلغت وقاحة صاحبها مبلغاً تجاوز النازلة موضوع الدرس، لكن القاضي أبقى رأسه على عنقه حيث اعتبر كل ما يُكتب بصيغة التساؤل يدل على الوساوس التي قد تجتاح بعض الشباب وجعل الشك حاملاً لاحتمالين -وإلا صار يقيناً- واعتبر وجود احتمالين مصدراً كافياً لتوفير الشبهة الضرورية لتعطيل الحد وعلى نفس الشاكلة تمكن معاينة نص ولد مخيطير الزاخر بالوساوس والتساؤلات.

السوابق القضائية التي امتنع فيها القضاة أكثر من أن تحصى وإلا لما كان في تراثنا هذا العدد الكبير من من الملاحدة والمعطلة والمعتزلة والمرجئة والمجسمة والمتسائلة والمتفلسفة.. ولما نجت قبائل بايعت مسيلمة وأخرى بايعت زوجه سجاح من القتل الجماعي… ولما تمكن جبلة ابن الايهم من الفرار من مكة يوم الحج الأكبر ولما كتب له لاحقاً الخليفة معاوية يعرض عليه غوطة دمشق إن هو عاد لجلق وتمشى حول قبر جفنة.. ولما خرج المتنبي من السجن بعد ادعائه النبوة ولما ولما ولما….؟؟؟

القانون الموريتاني والشريعة

القانون الجنائي الموريتاني الساري المفعول يعتبر محاولة رائدة في تقنين الشرع الإسلامي وهو نتاج قرائح فقهاء تمتعوا بالسلطة الأخلاقية بسبب التقوى والتبحر في العلوم الإسلامية ومنهم العلامة وكبير القضاة المرحوم محمد سالم ولد عدود.. ومنهم إمام نواكشوط المرابط بداه ولد البصيري طيب الله ثراه ومنهم العالم العامل محمد يحى ولد الشيخ الحسين اسكنه الله المنازل العليا.. وغيرهم من أحبار هذه الأمة وتبعا لذلك يعتبر مرجحاً على غيره بقوة القانون ومن هنا تعتبر مطالبة العوام بالخروج عليه معصية ودعوة صريحة للفتنة… وهذا لا يعني أنه لا يحق لعمرو أو لزيد التعبير عن رأي يخالف مضامين هذا القانون أو المطالبة بتغييره في أي اتجاه.. لكنه مادام ساري المفعول يبقى هو الفيصل الوحيد في كل خلاف شرعي أو فقهي من منظور الشرع الإسلامي ومن منظور القوة العمومية.

يقر هذا القانون صراحة بوجود جريمة الردة ويفرق بينها وجريمة الحرابة ولقد حصر أنواع الردة في ثلاث عينات فقط وهي: الزندقة، الردة المتولدة عن ترك الصلاة، الاستهزاء وانتهاك حرمات الله.

تنتفى الزندقة عن هذه النازلة بسبب وجود المجاهرة بالكفر لأن الزندقة هي الكفر المستور الذي يتخفى صاحبه بين المسلمين ويعرف القانون الموريتاني الزنديق بأنه: من يسر الكفر ويعلن الإسلام.

لقد كيف القضاء الموريتاني الجالس بواسطة ديوان التحقيق مقال ولد مخيطير يوم 20 1 2014بالقرار رقم 26/14 قائلاً: “..اننا نصرح بأنه توفر من الأدلة ما يكفي لمتابعة المتهم: محمد الشيخ ولد محمد ولد مخيطير، المولود سنة 1983بكرو بتهمة الاستهزاء بالرسول عليه الصلاة والسلام وانتهاك حرمات الله المنصوص عليهما وعلى عقوبتهما بالمادة 306(الفقرتين الأولى والثانية)…”، وفي نفس الاتجاه أثبتت محكمة نواذيبو الاستئنافية عليه حكم الإعدام بسبب الردة وليس الزندقة ومكنته من التمتع بحقه في التوبة التي تعطل حد الإعدام. واختصارا للمسافة أسرد لكم نص المادة (306) بقضها وقضيضها ومباشرة من قانون العقوبات :

كل من ارتكب فعلا مخلا بالحياء والقيم الإنسانية أو انتهك حرمة من حرمات الله أو ساعد على ذلك، ولم يكن هذا الفعل داخلاً في جرائم الحدود أوالقصاص أو الدية يعاقب تعزيراً بالحبس من ثلاث أشهر إلى سنتين وبغرامة 5000اوقية إلى 60000 أوقية.

كل مسلم ذكراً كان أو أنثى ارتد عن الإسلام صراحة، أو قال أو فعل ما يقتضي أو يتضمن ذلك أو أنكر ما علم من الدين ضرورة، أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو أنبيائه يحبس ثلاثة أيام، يستتاب أثنائها فان لم يتب حكم عليه بالقتل كفرا وآل ماله إلى بيت مال المسلمين.

وإن تاب قبل تنفيذ الحكم عليه رفعت قضيته بواسطة النيابة إلى المحكمة العليا.

وبتحقق هذه الأخيرة من صدق التوبة تقرر بواسطة مقرر سقوط الحد عنه وإعادة ماله إليه من المادة (293) إلى المادة (306).

وفي جميع الحالات التي يدرأ فيها الحد عن المتهم بالردة يمكن الحكم عليه بالعقوبات التعزيرية المنصوص عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة.

كل شخص يظهر الإسلام ويسر الكفر يعتبر زنديقاً يعاقب بالقتل متى عثر عليه بدون استتابة ولا تقبل توبته إلا إذا أعلنها قبل الاطلاع على زندقته.

كل شخص مكلف امتنع عن أداء الصلاة مع الاعتراف بوجوبها يؤمر بها وينتظر آخر ركعة من الضروري، فان تمادى في الامتناع قتل حداً وان كان منكراً وجوبا قتل كفراً ولا يفعل في تجهيزه ودفنه ما يفعل في موتى المسلمين ويكون ماله لبيت المسلمين. ولا تثبت هذه الجريمة إلا بالإقرار .”

يستخلص من هذه المادة أن الشرع الإسلامي حسب ما رجحته قوانين الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي أجازها علماء القطر،في عمومهم ومنذ ثلاثة عقود ونيف، يقول باستتابة ولد مخيطير ويكلف المحكمة العليا بمعاينة توبته وأنه في حال قبولها تسقط عنه عقوبة الإعدام وتستبدل بعقوبة تعزيرية لا تتخطى فترة 24 شهراً وبما انه قد قضى في السجن ما يفوق الفترة المحددة بات لزاماً على القضاء الموريتاني إطلاق سراحه فور معاينة المحكمة العليا لتوبته والتوبة كما هو معروف يستحيل عقلا وشرعاً منعها عن من يقول بها فالله جعل علينا الحكم بالظاهر وتولى عنا السرائر.

يبدو أن إطلاق سراح هذا الشخص يزعج بعض المتنفذين.. ولذلك نشاهد التلكؤ في أوضح حالاته وأعتقد شخصياً أن التجاذبات والمزايدات السياسية الرخيصة بين الحاكم الذي يريد تمثيل دور حامي المقدسات الأول والمعارضة التي تتهمه بالمراءاة.. ارتهن القضاة وجعلهم غير قادرين على معاينة وجدولة الملف في الآجال الطبيعية وقد ينضاف إلى ما سبق شغف بعض المتعالمين بالفتك والغلواء- ولو خارج القانون والشرع- ومن هنا يمكن القول ان المتهم صار -ومنذ شهور- رهينة لإرضاء نزوات كل من سبق ذكره وإلا فما السبب في تأخير جلسة المحكمة العليا ومعاينة توبته؟

الخلاصة

أعتقد أن المجتمعات الإسلامية في خصوصها وعمومها تعيش فترة مفصلية من تاريخها، فهي تبحث عن وسائل النهضة التي تعرقلها قرون وقرون من تراكمات الجمود الذهني، فنحن ما زلنا أسرى للقرن الثالث للهجرة، وهذا أمر خلق لنا معضلة مستمرة بين المقبول والمعقول فمنذ أن تم إغلاق باب الاجتهاد أصبحنا نعتقد بسذاجة مفرطة أنه ليس أحسن مما كان، وما زلنا نعاين كل أمر بعيون غيرنا وانطلاقاً من أرضية معرفية مضطربة… ونسينا أن لكل زمان رواده ولكل عصر اجتهاداته وضروراته وحرمنا على أنفسنا المباح وسكنتنا الهواجس فأبحنا الحرام.

أعتقد أن الوقت قد حان لفتح نقاش بين أهل العلم وأهل الحل والعقد بغية تبني قوانين جديدة تتطابق مع شرع الله وتطبقه وتحترم مصالح الجمهورية ومكتسباتها الحقوقية.

وهنا لا يفوتني أن أنوه بموقف العالم السمح والعارف بالله الشيخ عبد الله ابن بيه-حفظه الله- الذي كتب وقال أكثر من مرة ان مصالح الدول الإسلامية في علاقاتها الخارجية والتزاماتها الدولية تسمح لقادتها بإعادة النظر في أي تقنين شرعي وله على ذلك أدلة وبراهين فقهية بينة وجلية.

لقد أثبت العلم الحديث وأثبتت الوقائع صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان والفضل في ذلك يعود للقرآن الكريم معجزة الرسول الأعظم وهو إعجاز يتضح لكل صادق مع نفسه من خلال ثبوتية النص وحركيته في نفس الوقت… وقد أبلى العلماء في شرح ذلك الباب وأبدعوا.

لا يخفى على كل معني بشؤون القضاء في بلادنا مدى فداحة بعض الثغرات في قانون العقوبات الموريتاني، خصوصاً بعد ان علقت الدولة تنفيذ الحدود، والمشكل هنا ليس في شرعية تعليق الحدود ،فقد استفضت في الحديث عن سلطانية الحدود، وإنما في عدم اشتمال القانون على بدائل عقابية لبعض الحدود.

على سبيل المثال: هل من المنطقي أو من العادل -في شرع الله- أن يتحول المحكوم عليه بالجلد بسبب القذف أو الزنا إلى سجين مدى الحياة بسبب غياب بدائل تعزيرية سكت القانون عنها لأن المشرع وقت سن القانون لم يضع في الحسبان أن حكومة لاحقةً ستعلق تنفيذ الحدود؟

دعوني أزدكم من الشعر بيتاً متسائلاً أيضاً عن شرعية ممارسة الجمهورية الإسلامية الموريتانية للنفاق على المستوى العالمي؟

نعم.. إنه النفاق المزري هذا الذي نشاهده في تناقض قوانيننا.. حيث تنضم بلادنا -دون أي تحفظ- إلى الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان وكلها مواثيق صادق عليها البرلمان الموريتاني وأصبحت قوانين داخلية ملزمة وكلها تمنع الحدود وتحظرها صراحة.. بل وتعتبرها مساسا بالسلامة الجسدية للإنسان والمساس بسلامة الجسد أمر تصنفه معاهدة روما -التي صادقنا عليها- من بين الجنايات ضد الإنسانية، فلماذا وكيف والى متى سنظل نكذب على أنفسنا وعلى العالم ؟

هذا النفاق الرسمي يجعل حكومتنا في وضعية محرجة أمام نفسها وأمام مواطنيها وأمام قضاتها وأمام العالم وهو أمر مخجل جداً لمن يتشرف بتسمية نفسه بالجمهورية الإسلامية!

لذلك أجدد الدعوة لأهل الأمر في بلادنا.. وأقصد العلماء في الدرجة الأولى.. ثم الساسة في الدرجة الثانية للتباحث في هذا الأمر والخروج بحل لهذه المعضلة، فإذا حصل لدينا إجماع على شرعية البقاء في هذه التجمعات الدولية فلنبق فيها ولنوائم قوانيننا وممارساتنا معها، وإذا استصوب أهل الحل والعقد التنصل منها بحجة تفضيل حكم الله على اجتهادات البشر فلنتنصل من هذه المواثيق والمعاهدات “الكفرية” جهاراً نهاراً، دون مواربة أو مداهنة، وأجرنا على الله 

أطالب بذلك لأنني أؤمن بصدق الإسلام، وقدسية الشريعة وأحترم كل أحكامها، وأولها تلك التي تحرم النفاق وتتوعد أهله بقعر جهنم بل بدركها الأسفل، واستغفر لله لي لكم، ولنتمسك بحب نبي الهداية والرحمة ولنتشوق لرؤيته،ولنبتهج بها دائماً.

والصلاة والسلام على النبي الخاتم وعلى آله الأطهار وصحبه الغر المحجلين.

كاتب التدوينة: محمد ولد أمين

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

أظهر المزيد

MTAYouth

منصة شبابية مستقلة متوجهة للفرد والمجتمع المغاربي والعربي، فضاء حر لنشر مدوناتكم ومقالاتكم وآرائكم، وصياغة محتوى شبابي راقي، سجل بالموقع ودون معنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
fethiye escortmarsbahismarsbahismarsbahis
dex sniper botpancakeswap botİzmir Medyummarsbahis girişviagraweb sitesi yapımı