نماذج احتجاج بصبغة دينية في الجزائر

تشهد الجزائر احتجاجات اجتماعية، سلمية، متقطعة، لكن عدواها تنتقل من مدينة إلى أخرى. يندّد أصحابها بالحفلات والمهرجانات الفنية التي تُصرف عليها أموال طائلة، فيما يعاني المواطن ظروفا معيشية صعبة، ويطالبون بمنح الأولوية القصوى للتنمية، لتحسين ظروف المعيشة.

وتثير هذه الاحتجاجات الانتباه لأمرين. أولاً استهدافها التظاهرات الفنية، التي كثيراً ما تثير نقاشات في البلاد بسبب تكاليفها، ذات الطبيعة الموسمية. ثانياً الصبغة الدينية التي بدأت تتّخذها، ما جعل التنديد بالحفلات الفنية لا يحكمُه عامل هدر المال، في زمن البقرات العجاف، وإنما أيضاً العاملان، الأخلاقي والديني.

مرّة أخرى، يعود الجنوب الجزائري ليحتل صدارة الحركات الاحتجاجية الاجتماعية في البلاد، مع موجة الاحتجاجات الحالية ضد السهرات والمهرجانات الفنية. وتدل هذه المظاهرات، ذات الطابع الاجتماعي، على نقلةٍ نوعيةٍ في نماذج الاحتجاجات في الجزائر، تنديداً بظروف المعيشة الصعبة، وبالتخصيص غير العقلاني وغير العادل لموارد البلاد.

إنها مفارقة: انتفاضة سكان المنطقة الأكثر ثراءً، والتي تشكل العمود الفقري لاقتصاد البلاد، لما تزخر به من ثرواتٍ نفطيةٍ وغازية، وحتى معدنية، لكنها الأقل استفادةً منها. إنها منطقة المفارقات، فالضآلة السكانية الحادّة لمنطقة الجنوب تقابلها كثافة طاقوية قوية، إذ تمثل المحروقات، القادمة من الصحراء، 97% من إيرادات الجزائر، بمعنى أن الشمال الذي يسكنه حوالي 90% من الجزائريين، ويمثل حوالي 20% من مساحة البلاد، لا يساهم إلا بنسبة 3% في إيرادات البلاد، وربما أقل إذا احتسبنا بعض المحاصيل الزراعية، مثل التمور التي تأتي أيضاً من الجنوب، ويُصدّر جزء منها إلى الخارج.

تؤكد هذه الاحتجاجات على تطور في الدينامية الاحتجاجية في الجزائر، وعلى تحوّل في علاقة مناطق الجنوب بالسلطات المركزية، فالجنوب بقي زمنا طويلا في منأىً عن الاحتجاجات شبه اليومية، متفاوتة الحدّة والتعبئة والانتشار التي تشهدها المناطق الشمالية. بل كان حالة استثنائية في خريطة الانتفاضات المتقطّعة في البلاد.

وحتى لما عرفت هذه الأخيرة حركات احتجاجية عارمة في الشمال، بقى الجنوب هادئاً، وكأنه غير معني تماماً بما يحدث، لكن الوضع تغير منذ حوالي أربع سنوات، فقد حول أهل الجنوب منطقتهم إلى القلب النابض للحركات الاحتجاجية في البلاد، فضلاً عن كونها القلب النابض لاقتصادها.

“يبدو أن ما يمكن تسميتها السلفية الاجتماعية تغلغلت في الاحتجاجات أخيراً.”

شهد الجنوب، ويشهد، ثلاث موجات احتجاجية. أولها ذات طابع اجتماعي – اقتصادي، اندلعت في بعض المدن، لاسيما حاسي مسعود (788 كلم جنوب العاصمة الجزائر)، عماد اقتصاد الجزائر، حيث تظاهر أهلها، كما تظاهر أهل ورقلة (عاصمة الولاية) للتنديد بالتهميش والحرمان والبطالة، مطالبين بتوزيعٍ عادل للثروات، وبتشغيل أهل المنطقة في محطّات استخراج النفط والغاز في منطقتهم، فهم يعتبرون أن ثروات الجزائر تأتي من منطقتهم، لكن الثراء لغيرهم.

ثانيها الحركات الاحتجاجية المرتبطة بالمواجهات الطائفية التي شهدتها مدينة غرداية، كون الأخيرة تحمل أيضاً مضامين اجتماعية – اقتصادية، بغض النظر عن بعدها الطائفي المزدوج (العرقي والديني). ثالثها المظاهرات الشعبية الكبيرة التي عرفها الجنوب، مطلع 2015، بسبب نيّة الحكومة استغلال الغاز الصخري، لتعويض الخسائر الناجمة عن تهاوي أسعار النفط والغاز. ورفع حينها السكان، ولأول مرة في تاريخ البلاد، مطالب بيئية، فضلاً عن المطالب الاجتماعية.

وهذا ينمّ عن تطور الوعي الاجتماعي، وتنوع لائحة المطالب الشعبية. أما الموجة الرابعة فبدأت قبل أيام، في مدينة ورقلة، وإن كانت أقلّ تعبئة من سابقاتها، لكنها قد تتطوّر مستقبلاً. وبدأت الاحتجاجات أخيرا بمظاهرة تنديداً بتنظيم سهرتين فنيتين وصرف أموال طائلة عليهما، في وقتٍ يعاني فيه السكان اجتماعياً واقتصادياً.

ورفع المتظاهرون شعاراتٍ تندّد بهدر المال العام، وتطالب بتخفيض فواتير الكهرباء لسكان الجنوب، وباستثمارات في القطاعات العمومية، وبالحد من البطالة.

لذا طالب هؤلاء بتخصيص تلك الأموال لتنمية المنطقة، وتحسين الظروف المعيشية لسكانها.. ما اضطر السلطات المحلية إلى إلغاء السهرتين، إلا أن الجنوب لم يكن سبّاقاً في الاحتجاجات على الحفلات الفنية، لأن بجاية، في الشمال، هي أول مدينة ينتفض أهلها ضد هذه الحفلات، في أواخر مايو/ أيار الفارط.

استعمل المتظاهرون شبكات التواصل الاجتماعي التي انتشرت فيها، في الآونة الأخيرة، حملات منادية بمقاطعة بعض السلع، مثل التي تستهدف السيارات المصنوعة (المركّبة) محلياً لارتفاع أسعارها. وقد أثرت هذه الحملة فعلاً على سوق السيارات في الجزائر، حتى وإن لم تنجح في إحداث تخفيض حقيقي في الأسعار، فإنها أربكت السوق، وجعلته يعرف نوعاً من الركود، من حيث حركة البيع والشراء.

إذا كانت الموجتان، الأولى والثانية، محدودتي العدوى، لأن إمكانية انتقالهما إلى مناطق شمال البلاد مستبعدة، كونها مناطق ذات طبيعة مناطقية (مطالبة بالاستفادة من ثروات المنطقة من جهة ومواجهات طائفية من جهة ثانية)، فإن إمكانية عدوى انتقال الموجتين، الثالثة والرابعة، كبيرة جداً، لأنهما تحملان هموماً وطنية البعد. والدليل أن الاحتجاجات المستهدفة السهرات والمهرجانات الفنية انتقلت من مدينة بجانية إلى مدينتي ورقلة (جنوب)، في أواخر شهر يوليو/ تموز الماضي، ثم سيدي بلعباس (شمال غرب) مطلع شهر أغسطس/ آب الحالي، فضلاً عن مدن أخرى، مثل قسنطينة (شمال شرق).

إذا كان البعد الاجتماعي – الاقتصادي لهذه الاحتجاجات لا شك فيه، فإن ولوج العامل الديني الساحة أوجد نوعاً من الإرباك، لأنه يبدو أن ما يمكن تسميتها السلفية الاجتماعية تغلغلت في الاحتجاجات أخيرا، وأعطتها بعداً دينياً أيضاً، إذ إن طريقة الاحتجاج واختيار بعض الأماكن للتجمع تعبر عن نزعة دينية تذكّرنا، إلى حد ما، بما حدث خلال تسعينيات القرن الماضي، لمّا عرفت الجزائر صراعاً أهلياً دموياً.

“العامل الديني غيّر قواعد اللعبة، لأن النزعة الدينية لا يمكن إرضاؤها مالياً فقط، بل أيضاً أيديولوجياً”

حيث أقام المتظاهرون في ورقلة صلاة المغرب أمام مسرح الهواء الطلق الذي كان سيحتض السهرتين الفنيتين. وتكرّر المشهد نفسه في سيدي بلعباس، أي أقام المتظاهرون صلاة المغرب أمام القاعة التي سيقام فيها مهرجان أغنية الراي.

وتوحي عودة ظاهرة “الصلاة في الشوارع”، في مثل هذا السياق، بأن السلفية الاجتماعية التي تسامحت معها السلطة، وربما شجّعتها لخدمة مآربها السياسية، بدأت في استرجاع بعض الاحتجاجات الاجتماعية، وإضفاء صبغة دينية عليها.

تطرح هذه الاحتجاجات تحدياتٍ للسلطة التي لم تتعوّد على تنوّعها، وخصوصا على انتقال عدواها واستخدامها شبكات التواصل الاجتماعي. لهذه الاحتجاجات رسالة واضحة: لم تعد الخيارات الاقتصادية الكبرى للبلاد حكراً على الحكومة، بل للمجتمع المدني الناشئ كلمته فيها (استغلال الغاز الصخري)، كما أنه لم تعد خياراتها وصلاحياتها في تخصيص الموارد المالية حكراً عليها، فالشعب يريد أن تكون له كلمته في الأمر. هذا يعني أن المحتجّين يتهمون الحكومة بالعبث بالمال العام.

لتهدئة الوضع، قد تردّ الحكومة بوعود بضخ مبالغ ضخمة في مشاريع تنموية في المناطق التي تشهد هذه الاحتجاجات، لكن العامل الديني غيّر قواعد اللعبة، لأن النزعة الدينية لا يمكن إرضاؤها مالياً فقط، بل أيضاً أيديولوجياً. وبالتالي، من غير المستبعد أن تفضل الحكومة الانحناء الاستراتيجي، لأنها مقبلة على استحقاق انتخابي (رئاسيات أبريل/ نيسان 2019) ريثما تهدأ الأمور، ما قد يوحي بإقدامها على تنازلاتٍ ليس بالضرورة للمطالب الاجتماعية، وإنما للنزعة الدينية، ما سيدعم من موقف السلفية الاجتماعية في البلاد.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version