استيقظَ هذا الصباح ولكن ليس كما يستيقظ الكثيرون من الناس.. أو كما كان يستيقظ قبل عدة أشهر.. يوم كان يذهب إلى مكان عمله ليؤمن لقمة العيش..
يومها نزلت قذيفة غادرة، شعر بدوار شديد ولم يعد يرى شيء سوى خيالات لأشخاص كانوا يقولون: “سليمة إن شاء الله سليمة إن شاء الله”.. وقد ظنوا أنه بخير بسبب عدم وجود نزف في جسمه..
استعاد وعيه وهو في المشفى محاطا بالأطباء والممرضين.. قال له الطبيب حرك يدك اليمنى امتثل للطبيب ولكن ما هذا ما الذي يحدث يده لا تستجيب له حتى قدماه ويده الأخرى.. ما الذي يجري؟..
حوقل الطبيب واسترجع وكتب في تقريره إلى طبيب الجراحة العصبية؛ “شظية صغيرة في النخاع الشوكي من جهة الرقبة أدت إلى شلل رباعي دائم”..
فرحت أمه بشدة عندما علمت بنجاته من الموت وأنه لم يستشهد كما إخوته الثلاثة ولكن دموع الفرحة تحولت إلى دموع الخيبة عندما علمت بشلله الدائم..
أصدقاؤه وأقرباؤه آثروا أن يخبروه بوضعه الدائم لأنهم يعرفون مقدار صبره وإيمانه.. أما هو فلم يشعر بالأسف..
كانت معنوياته عالية وكان يشعر بحتمية شفائه وعلاجه رغم كل شيء، ورغم عودته لاستعمال الحفاضات وحاجته للأخرين في كل شيء..
في هذا الصباح استيقظ مسرورا وسعيدا لقد رأى في المنام أنه يمشي ويتحرك لا بل ويطير.. استبشر وذهب إلى مركز تأهيل المعاقين الذي يذهب إليه يوميا ولا يعود إلا قبل المغرب.. حيث يلتقي بزملائه وأقرانه المصابين بالشلل والبتور والإعاقات المختلفة التي سببتها بلايا الحرب وكوارثها..
في هذا اليوم خضع لجلسة المعالجة الفيزيائية والدورات التدريبية والجلسات التحفيزية.. لقد كانت كلماته المتفائلة وابتسامته العذبة منبع أمل وبلسم جراح لرفاقه..
في ذلك اليوم جلسوا بعد صلاة العصر يتجاذبون أطراف الحديث، تحدثوا عن الطائرة وغيابها اللافت منذ شهرين
وكم خفف غيابها من ألام وخوف ومعاناة..
هو كان له وجهة نظر مختلفة: هذه الطائرة خرجت بأمر الله ولو لم يرد الله لها أن تخرج ما خرجت، كم وكم من الناس يذكرون الله عند يسمعون صوت الطائرة ولم ينهي كلامه حتى سمعوا الصوت..
ماذا الطائرة!.. نعم إنه صوتها لقد انقضت عليهم وهرب المحيطون بهم وانبطحوا بحثا عن ملجأ..
أما هو وثلاثة من زملائه المعاقين فلم يستطيعوا التحرك ولم يسمع إلا صوت انقضاض الطائرة تلاه صوت نزول الصاروخ..
يومها أحس بدوار وطنين وتشويش وغمام ولكن ما الذي حدث إنه يمشي لا بل ويطير بجناحين، كان محاطا هذه المرة بالملائكة بدل الأطباء.. ولم يعد مقيدا بزمان أو بمكان..
مستبشرا بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. أما الناس فقد جلسوا يندبون المأساة ليضيفوها إلى سفر المآسي الذي يأبا أن ينتهي..