شيء رائع أن تحاول أن تكون مثقفاً، وأن تسدل على وجهك عباءة المتمكن العارف، بل ما يسر قلبك أن يراك الناس بنظرة الحاذق الفاهم، فلا يلزمك الكثير من الجهد، يكفيك أن تحشر أنفك المليء بالمخاض في كل وسمِ يطفو على سطح العالم الافتراضي.
أن تكتب منشوراً وتضعُ في أحشائه أسماء لفلاسفة مُفترضين من يدري قد يكون لهم وجود على هذه الكوكب وقد لا يكون، أمورٌ غير معقدة يستخدمها البعض كوسيلةِ لبلوغ هدف ما أو الحصول على إعجابِ منشود، فهذا ما يسمى بالثقافة عند بعض البشر الذين قدر لنا الله أن نتقاسم معهم كرة الوحل هذه، ولا شيء يسعنا فعله سوى الدعاء لملك الموت أن يحفظ أرواحهم فقد أزكمت نتانة ثقافتهم أنوفنا، وضاقت بنا الأرض بهم وصبرنا قد بلغ الزبى.
أكتب كلماتي هذه وأنا أنسج في مخيلتي سيناريو مفاده:
ماذا لو سألني أحدهم عن مفهوم الثقافة كمصطلح لغوي، سؤال مهم قد يصدر من أحدهم في أي لحظة، حاولت حينها صياغة إجابةٍ شاملة لكني عجزت عن ذلك فاستسلمت لجهلي ولم أكلف نفسي عناء التنقيب عنه، فما أعرفه جيداً وأعيه أن الثقافة ما وجدت لغرض الثناء على علماء الغرب أو الشرق، وما وجدت لتمدح فلاسفة العصور على فلسفاتهم التي كانت سبباً وجيها في إخراج البعض من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار، كل هذا أراه بلادة وبلاهة وسفاهة..
الثقافة الحقيقية وجدت لترفع الفقراء والمعوزين من بحر ثقافتهم، ولتواسي الحشاشين والبؤساء في سكرات أوجاعهم، ولتضمد جروح الكادحين الذين طعنهم القدر على غفلة منهم، وهم منها عامون، لهؤلاء وجدت الثقافة، ولأجلهم أنزلت، ولحالهم رأفت، فجابت بقاع العالم أجمع..
وبمعنى آخر:
الثقافة مصطلح تلحنه آهات الناس وانتكاساتهم، ومفهومه مأخوذ من تربة واقع معاش وليس من أرض أناس لا يمتون لواقعنا بصلة ولا يعرفون عنا ولا أدنى كلمة، بل ما اعترفوا يوماً بوجودنا لأن مكانتنا عندهم تصنف في الهامش، والبقاء يكون دائما لصالح الأقوى..
والأدهى أن وسائل التواصل الاجتماعي صنعت لهؤلاء الناس هالات كاذبة جعلت من بعضهم رموزاً رغم فقدانهم أهم معايير القيادة والكتابة، ولعل جميع محتواهم يكون فراغاً بما يفيد، ويساعدهم في ذلك جهل المستخدمين وسخافة ما يتداولونه، هذا ما دفع إلى انتشار ظاهرة “المستأسدين الوهميين” والذين يزأرون من خلف الشاشات فقط ولا صوت لهم يعلو ولا فعل لهم على أرض الواقع، فهم يسردون النظريات ويطرحون القصص والروايات ويقض مضجعهم عدد “اللايكات”..
هؤلاء باتوا مصابين بحمى الشهرة “الفيسبوكية” وأصبح هاجسهم وهوسهم الوحيد هو عدد المعجبين وحجم المتابعين، أصبحوا يصلون الليل بالنهار ملتصقين بأجهزتهم يتنقلون بين حساباتهم لكي لا يفوتهم أي جديد وبات صوت الإشعار لأي التطبيقات الاجتماعية بالنسبة لهم معزوفة موسيقية تطربهم فتجد أصابعهم لا إرادياً تداعب شاشات الهواتف بسرعة العدائين ودقة أمهر لاعبي البلياردو..
بصراحة هؤلاء النوعية من الناس أحزن على ما وصلوا إليه من الحماقة فمهما كانت وسائل التواصل الاجتماعي مهمة ليس عليها أن تجعل منا مجرد أشخاصٍ يلهثون وراء هالةٍ وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع، فنحن لا نريد الجلوس وراء الشاشات فقط..
وهنا أوجه رسالتي إلى كثير منهم وأقول لهم لو أن أحدكم فعل ما يكتب عبر منصاته الاجتماعية ما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، فلننهض بأنفسنا ومجتمعاتنا، لنعد إعمال عقولنا ونواجه عقباتنا، دعونا نخرج من ذلك الجحر الذي وضعنا فيه لننطلق إلى عنان السماء بشعار العقل أولاً وأخيراً.