«مَدخَـل»
قديماً كان كُلّ شيء مَخفياً ومُتوارياً إلى حين قُدوم ذلك اللّامرئي من عالم المجهول إلى عالم المعلوم مُتجسِدّاً فكان كلِمةً انجلَت وتَجلّت بمعانيها، وتلك الكلمة كانت كلمات اتّحدَت وتناسَقت لتكون “كتابةً“، ثُمّ نمت هذه الأخيرة وتطوّرَت ثُم تعقَّدت إلى أن احتَاجَت إلى “قراءة” لفكّ وتفكيك رِباط المُعقَّدَات التّي تكونّت بفعل تنوَّع نصُوصها، فظهرت المُعتقدَات التّي تعدَّدَت أنسَاقُها وترابطَت تَوجُهاتها بسبب تعدُّد القراءات وتنوّع التأويلات، ولهذا اتّحدَت الكُتب الدّينية الإبراهيمية الثلاثة لتُساعد العقل البشري في رحلته المعرفية للبحث عن حقيقة المعاني بعد أن تمّ مواراتُها في الأرض برموزٍ ورمزياتٍ تضمَّنتها التّوراة، فجاء العهد الجديد وكانت في البدء كلمة لتنجلي بالإنجيل وتخرج مِن دوائر الخفاء فتُجسِّد الأفكار والمفاهيم التّي تحتاج إلى قُرآن يَقرؤُها ويستقرأ معانِيها، فكان لزاماً على الإنسان الباحث عن ذاتِه أن يَقرأ تلك الكلمة التّي كانت مُتواريةً..
في أحد الأيام وفي جلسة معرفية قال الفيلسوف سقراط لأحدهم جاءه وهو يتبختر في مشيه، يزهو بنفسه، وسيماً بشكله، وبعد أن نظر إليه مطولاً: (تكلّم حتّى أراك)، فهو لم يَدعُه إلى الثرثرة بل إلى تِبيان وجُوده حتّى تتجسَّد أفكارُه وتتجلّى كينُونته، وحتّى يرى أحدُهم فِكرةً أو كلمةً مسموعةً كانت أو مكتُوبةً عليه أن يقرأها عقلاً ولا يكتفي برؤيتها عياناً، فيُعطي رأيه بمَ عايَنَه، إذ لا يُمكِن للإنسان أن يُكوِّن رأياً تُجاه أي قضيّة مطروحة بين يديه إلا بعد الاعتماد على آليات القِراءة بأدواتِها المعرفية المُتاحَة، وبهذا فأنّنا نستطيع القول أنّه تشكَّل لدينا “ثالوثاً تواصُلياً” نعتمِد عليه في مُختلف قراءاتنا:
– المُرسِل (الكاتب / المُتكلّم).
– الكلمة (الرسالة الصوتية / الرسالة الكتابية).
– المُرسَل إليه (القارئ / المستمِع).
لِنتعرّف مبدئياً على العلاقة التّي تربِط بين الأقانيم الثلاثة التّي ذكرناها علينا أن نبحَثَ عن ماهية الكِتابة والقراءة مع التّنقيب عن مكنُون الكلمة، فقَد ورد في إنجيل يوحنا: (في البدء كانت الكلمة) ومِن البديهي أن الكلمة تُكتبُ وتُقرأ، كذلك ورد في المصحف القرآني: (اقرأ باسم ربِّك الذّي خلَق)، وعليه فإنّ الإنسان الذي تلقّى تِلك الكلمة مُلزمٌ بقراءتها وبَقْر بواطنها لاستخراج مكنُوناتِها.
لهذا ومع أوّل ظُهور للكلمة سواء كانت دينيّةً مقدّسة أو أدبيةً أو فكريةً وَجب عرضُها على مِشرحة القراءة لشرحِها وتشريحها ثُمّ دراسة مُحتوياتِها، قبل أن تتغطّى بالغُبار فيترسَّب ويتراكم ثُم تَتكدّس رواسِبه إلى أن تتحجّر الكلمة وتُصبِح جماداً، فلا تُشَرّح ولا تُشْرَح وبالتّالي يصعب استخراج معانيها وقد يستحيل التخلُّص مِن التّراكُمات التّي تكلّست وغطّتها وغلّفتها، مِمّ يؤدّي بنا إلى الوقوف أمام صخرة أثرية صلبة وعتيقة تُوضَع في المتاحِف مِن أجل أخذ صُورٍ تذكارية معها دون لمسٍ أو مُعاينة شأنُها كشأن الطابُوهات المُحرّمَة.
ومع مرور الوقت وبسبب هذه المتاحِف الأثرية ينشأ لدينا تدريجياً جيلٌ قارئٌ لا يقرأ، يُكتبُ له ولا يَكتب، يُشاهد ولا يُلاحظ، كذلك يرى بعينِه ولا يستنتج ببصيرته، فنتحوّل إلى مُجتمعات تنظر ولا تُبصِر كالخُشُب المُسنّدة نستهلِك ولا نُنتِج، فتختفي طقُوس القراءة المُنتِـجَة وتظهر كَهَانَة القِراءة المُنتَـجَة، حيث أنّ القراءة الأُولى هي طقوس يتعبّد بها القارئ ويتفاعل مُباشَرةً مع الكلمة وكاتِبِها، أمّا القراءة الثانية فهي عبارة عن قوالب جاهِزة مُقدَّسة يُقدِّمها وسيطٌ بين القارئ والكاتِب بِصفته القيّم والمُرشِد السياحي داخل تلك المتاحف الأثرية!
وبين القرائتين المذكورتين تظهر ظواهر أُخرى وتتَمظهَر في تمظهُراتٍ تتحّول فيمَ بعد إلى عوائق ابستمولوجية مُتنوّعة ومُتعدّدة، سُرعان ما تَخلق أزمة بين القارئ والكاتِب، عند أوّل مواجهةٍ تحدُث بين القارئ وبين الكلمة التّي تُكلِّمه وتتجلّى له بمعانيها، ما يؤدّي إلى خلق حالةٍ مِن الفزع تنتاب القارئ وتُرعبه، فيستنجِد بالمُرشِد السّياحي مِن أجل أن يتّحِد معه، أو يَستغني عن خدماتِه ويَقطع تواصُله بالكاتب نهائياً ليُلحِد.
وللحديث بقيّة..
كاتب التدوينة: إلياس الديلمي