وحشية الاغتصاب المضاعفة

“ثلاثة وحوش دخلوا عليّ… مع أول يدٍ لمستني، شعرتُ أن شيئاً انهار فيّ… لم يعد فكري لجسدي، وجسدي ما عاد لروحي، وروحي أصبحت في مكان آخر”… لقد “ارتكبوا بحقنا ما هو أقبح من القتل بكثير… أجل، الاغتصاب أقبح بكثير من القتل”.

هكذا تصف إحدى الناجيات من عمليات الاغتصاب الممنهجة التي مارسها النظام السوري في حقّ المعتقلات السوريات، بعضَ ما تعرّضت له، هي وأخريات، في الفيلم الوثائقي “صرخة مكتومة” (إخراج مانون لوازو) الذي عرضته القناة الفرنسية الثانية، الأسبوع الفائت.

شهاداتٌ قاسية جداً، تدلي بها مجموعة نساء من أعمارٍ مختلفة، تعرّضن لاغتصاباتٍ جماعية ومتكرّرة، كوسيلة إذلال وتركيع، كانت تنتهي غالباً باختفائهن أو بقتلهن. وهنّ، وإن رفضن إظهار وجوههن، أو على العكس من ذلك، ظهرن بأسمائهن الحقيقية، يروين، بدقةٍ تفوق الاحتمال، ما جرى معهن، حتى ليخيّل للمشاهد أنهن ينفصلن عن حيواتهن أحياناً، وكأنّ ما جرى، ويصعب احتماله أو استيعابه، إنما قد جرى لسواهن.

تروي فوزية الخمسينية، والدة البنات الثماني والصبي الوحيد، والناجية من مجزرة الحولة، كيف اقتحم الشبّيحة منزلها، فقتلوا زوجها واغتصبوها، واغتصبوا بناتها أمامها قبل أن يذبحوهن بسكاكين بنادقهم. ثم تظهر ابنتها رشا وقد نجت من الموت، لترينا على شاشة هاتفها الذكي فيديو يُظهر جثثاً ممدّدة على الأرض لنساء وأطفال تعرّفنا إليهم واحداً واحداً بأسمائهم ودرجة القرابة بينها وبينهم، وصولاً إلى جثة رجلٍ تقول عنها بشبه حياد: “وهذا أبي”.

أما مريم، ابنة حماة، الموظفة والأم، فتروي عن مشاركتها في المظاهرات، وعن موت أبيها خوفاً، على الرغم من رضاه عن سلوكها، وكيف تعلّمت الإسعافات الأولية لمعالجة الجرحى، فراح النظام يبحث عنها إلى أن تعقبها في أثناء زيارة لعائلتها بعد غياب دام أربعة أشهر. في السجن، ذاقت مريم الأمرّين، “ضرب في الصباح واغتصاب في المساء”، تقول، كل ذلك على لحن “نحن رجالك بشار”، فيما كان مغتصبون مدعوون من الخارج (العميد جهاد وسواه) يتناوبون على المعتقلات داخل غرفة خلفية معدّة خصيصاً، في مكتب المقدّم المسؤول.

وعمليات الاغتصاب التي كانت في بداية الثورة تجري داخل مراكز الأمن، وفي السجون، خرجت لاحقاً إلى العلن، إذ صارت تُرتكب على الحواجز، وفي المنازل، وحتى في الشوارع، بل إنها صارت تصوّر خصيصاً في مقاطع فيديو يتمّ إرسالها إلى المقاتلين وسيلة ضغط عليهم لتسليم أنفسهم، حيث يرى المقاتل نساء عائلته، أمّاً وزوجةً وأختاً وابنة، يتعرّضن للتعذيب والاغتصاب والقتل.

أعداد كبيرة من النساء اختفت وتختفي كل يوم. كثر من المعتقلات المتهمات بأنهن “إرهابيات” لا تُكتب لهن النجاة، فهن إما يمتن تحت التعذيب، أو جرّاء الاغتصابات الوحشية المتكرّرة، أو يقتلن وتُخفى آثارهن، فيما تنتحر أخرياتٌ مباشرة بعد اغتصابهن للمرة الأولى، وهو ما شهدت به إحدى الناجيات، إذ قالت إن خمساً انتحرن خلال شهرين فقط.

وقد تكون السيدة التي ترفض إظهار وجهها، والتي يُفتتح الفيلم بشهادتها، هي الأكثر تأثيراً في المشاهد، كونها ربما الأكثر مقدرةً على التعبير عن روحها المنكسرة الملوّثة. تقول إنهم اصطحبوها في ممرٍّ معتم طويل، كانت تصل إليها من جنباته أصوات المعذّبين وصرخاتهم، فتذكرت السيد المسيح، وقالت إنه لا بدّ قد تعذّب كهؤلاء. ثم أدخلوها غرفةً كانت فيها صديقتها عُلوة وفوقها ثلاثة رجال، علوة الصبية التي لن يقيّض لها بعد الآن أن تكون عروساً بفستان أبيض. وصورة علوة التي تئن وتتألم كحيوان جريح، لن تفارق ذهنها، حتى بعد أن أصابها ما أصاب علوة، إلى أن أنقذها نزيفٌ حادٌّ كاد يودي بحياتها، بعد أن تناوب عليها خمسة رجال، فنقلت إلى المستشفى في حال خطرة، وقرّر الطبيب أن ينقذها من خلال الإبلاغ عن موتها، والسماح لها بالفرار.

لكن، تبقى اللحظة الأقوى في الفيلم، والتي تستحق ربما فيلماً آخر، هي حين تتحدّث المغتصبات عن عذابهن الأقوى، ذاك الذي يُنزله بهن محيطهن العائلي والبعيد إثر نجاتهن. “النظام يغتصب، والمجتمع يعاقب”، تقول صديقة علوة، حين تكتشف أن الأخيرة قضت قتلاً على يد والدها، لأن المغتصبة تشكّل عاراً على أهلها، قبل أن تردف باكية: “نحن لسنا عاراً، نحن الشرف”.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version