وهذا أضعف الإيمان

عقب القرار الأخير لترامب -الذي لا يملك- بجعل القدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني وما صاحبه من رفض وسخط إلكتروني على مستوى الشعوب العربية، واستياء بلا معنى أو موقف على مستوى الحكومات.

في هذه الأونة صارت اللغة السائدة عند الكثيرين أن الصمت أفضل من تلك الجعجعة الفارغة في القنوات الفضائية والثرثرة الكاذبة في المحادثات والمقالات الإلكترونية على صفحات الإنترنت.

أحد الأصدقاء ادعى أنه لم يتأثر مطلقا بما حدث مؤخرا، مما جعله يشبه الأمر بالشاة المذبوحة، وهل يضيرها السلخ بعد الذبح!

ثمة نقطة جوهرية في مصير القضية الفلسطينية وهي أنها قضية طويلة المدى وعلى مستوى أجيال عدة، ربما هذا الجيل عاجز عن تقديم شيء ذو فائدة، فليكن دوره الآن هو تمرير القضية للأجيال الناشئة وتعريفهم بأبعادها وتاريخها وقداستها، وتحريك مشاعر النخوة والكرامة والثأر لديهم.

أذكر أولى اللحظات عقب إصدار القرار الأخير حيث اسقبلت ذلك الخبر أثناء العمل فهرعت إلى التلفاز أبحث عن قناة تغطي الحدث، وعند سؤالي من الزملاء وأكثرهن من الإناث ذوات العشرون عاما، كنت أجاوب بتعليقات ضيقة ومقتضبة محاولا استغراق أكثر وقت أمام التلفاز للإلمام بأبعاد الحدث.

في أول الأمر ولدقائق معدودة كانت اللامبالاة بينهن هي المسيطرة على الموقف، خلالها كن يسألن أسئلة بديهية وأولية في موضوع القضية الفلسطينية وحينها أدركت أن الجهل بالقضية، هو سبب عدم الاكتراث واللامبالاة.

وبعد أن أذاعت القناة كمّا لا بأس به من المعلومات عن القضية الفلسطينية وتحدثت في أطوارها وتاريخها وأعادت على أسماعنا وأبصارنا تلك الأحداث الأليمة التي ألمت بالأمة العربية عامة وبالفلسطينين خاصة، وجاءت بصور ومقاطع من الذاكرة الفلسطينية التي تدمي القلوب وتبكي العيون مصاحبة إياها بأغان وأناشيد قومية تؤجج المشاعر وتحرك الضمائر وتلهب العاطفة…

خلال هذه الدقائق المعدودة كان الموقف قد تحول تماماً؛ بدا على وجوههن التأثر الشديد، وترقرق الدمع في أعينهن، وتحشرجت أصواتهن وهن ينطقن بسيل من العبارات الساخطة المليئة بالحماس والدعاء والنصر. ولم أندهش كثيرا حينما عدت إلى المنزل وتصفحت موقع الفيسبوك فوجدت إحداهن تضع علم فلسطين كصورة شخصية لحسابها.

أعود لصديقي لأقول له بأن ما يحدث في القنوات الفضائية المناصرة للقضية الفلسطينية، وكذا الجرائد والمقالات والمجلات، وحتى على مستوى الأحاديث بين الأفراد في وسائل المواصلات وفي العمل وعلى المقاهي، وكذا المنشورات والتعليقات المختلفة على مستوى صفحات التواصل الاجتماعي، كل ذلك ليس جعجعة فارغة ولا ثرثرة كاذبة ولكنه (إحياء) للقضية، وتبني قومي شعبي لها حتى وإن لم يكن ذلك إلا صوتا وقلما..

وما تدعو إليه أنت ما هو إلا (تمويتها)؛ موقفك السلبي هو (الطبق) الذي تقدمه السياسة الصهيونية للعرب والمسلمين، تريد -هي- أن تقتل به المناعة لدينا، وأن تشل به عضو جديد أخر عن الحراك وفق سياسة نفسية منطقها -(هل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها!)- وبذلك نستسيغ مثل هذه الأحداث ونعتادها، فلا نحرك ساكنا حينما تقدم علينا بأي جديد.

إنني وأنت نعلم جيدا أنه لا فائدة مرجوة من الحكومات العربية الحاكمة، وأن الأمل دائما وأبدا بأيدي الشعوب المحكومة، فاجعلنا لا نفقد الأمل أبدا في الشعوب، وإن كان لا مناص من الاعتراف بخيبة حكامنا فلم لا نراهن على الشعوب نفسها..

دعني أذكرك يا صديقي بأن (معظم النار من مستصغر الشرر)، أذكرك بالأحوال في مصر يوم ٢٤ يناير وكيف انقلبت رأسا على عقب وعلى غير المتوقع في اليوم التالي.. أذكرك بأحداث تونس وكيف كانت النيران التي أضرمها أحد الباعة المتجولين في نفسه بسبب تسلط الحكومة؛ هي نفسها النيران التي أججت الثورة وأطاحت بالحاكم، أذكرك بمشهد الشهيد محمد الدرة وكيف كان أثره في نفوس العالمين، أذكرك بالانتفاضة الأولى والثانية، وكيف كان للإعلام والإنترنت والصحافة وتواتر وتناقل الأحاديث بين الأفراد وتبني المجتعات لتلك القضايا -قلبا وقلما وحديثا- في اشتعال كل هذه الأحداث ونتائجها..

ربما -يا صديقي- يكون هذا الجيل -المغلوب على أمره- عاجز عن تقديم شئ ذو فائدة.. إذن فليكن دوره الوحيد هو تمرير القضية للأجيال الناشئة، وهذا أضعف الإيمان.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version