الحياة كنسيم الصباح لمن يحمل قلبا شجاعا، تجعل الفرد الإنساني أكثر يقينا عندما يسترخي، وتعيد له وجوده عندما يفقد البوصلة بين زحمة الأفكار وهالة الانبهار، تحمله كما تحمل الأم وليدها لأوّل مرة، بها ذاك الوله وتلك اللهفة، تعيد للكائن الإنساني كافة التفاصيل المتعلقة بالأيام، ثم تسير على حواف طريق منعرج، لتوصل الفرد بعد طوافه لسنين إلى نقطة وضعت على سجله منذ الأزل، لم يتدخل في استحداثها هو، لكنه كان ولا يزال سيّد مصيره.
من العلامات التي ترشد الإنسان، تلك التي تعلوا على كل بيان، تلك التي تبدو للعامة على أنها واضحة ولا تستحق الجدل في مكامنها ولوازمها، ومع ذلك تجد الفرد الإنساني أكثر لهفة للتحرك في إطاره الخاص، تجده أكثر غموضا من الناحية العملية، لتنسج على منواله الكثير من دقائق الأمور رغبة في انجلاء كافة الشكوك التي تصيبه غصبا.
في الصميم منا، لا يحمل الكائن الإنساني سوى نفسه، تراه يغلق أبواب مراميه، ويضع حليته الفكرية الرهيبة في كفه الأيمن، يطبق عليها بأصابعه الذهنية، ثم يحاور بعدها كافة المتغيرات بلا تردد، وهذا الأسلوب هو الذي يحمل النفس على الإصغاء لكل ما من شأنه تطوير الذات، وتعليق كل التعابير بما لها من معاني، إنّ الوقوف على السلوك الصادر من الفرد البشري، مهما كان حسنا فإنه سيسقط ضمن دائرة الكف تلك، ومهما كان قبيحا فإن الأصابع ذاتها ستلتقطه، لتغيّر من مسايرتها له، وتحملها على مغادرة قوقعته التي تزيد من الغرق المعنوي للفرد البشري دون الالتفات إلى ما يرغب فيه أو يريده هو دون غيره.
تختفي الآثار التي تصيب الفؤاد نتيجة مقدمات تغزوا الفرق بين الإنسان والأحلام، تذوب المسافات بين الوحش والأمير، وتتعالى صرخات الفرح الحزين دون حواجز.
1. الوحش بمفردات الحضور
يقع الفرد البشري يوميا بين كماشات الواقع عند أول لقاء بيومه الجديد، عندما يفتح عينيه مستأذنا نومه للعودة إلى المفاجآت التي لا تعجبه معظم الوقت، فتراه يحاول أن يوازن حينا بين ما يولد بداخله وما يقف في المقابل منه، لتجد نفسك أمام مفارقة غريبة تقود الفرد ذاته إلى الاضطراب والغطرسة، إلى الذبول والاستسلام، إلى التعلق بالأمل أو الرجوع خطوات إلى الخلف دون تردد.
لا يمكن للفرد البشري الهرب من الوحش الذي يغالبه يوميا، بل إن ذلك الوحش هو المتعدد الذي يحاول التهام الفرد على غفلة منه، يستغل عثراته جيدا، يحصره في زوايا الحياة، يهاجمه بأدواته الخاصة، يلعن وجوده ويحاول الاجهاز عليه بكل قوته، يعيد هجوماته بلا ملل، محاولا الوصول إلى قتل آخر نبض في الإنسان، وإن لم ينجح في ذلك، تراه يغري الفرد بمقتله مستعملا كل الوسائل والطرائق التي تبهر الفرد بلا نزاع، وما الأوهام سوى حلويات يخرجها الوحش الجبار من جيبه المدرار.
2. الأمير كحُلم
هنا ينام الأمل متعصبا في هدوء مستتر، في هذه المساحة الحية، يولد الإنسان من جديد كل حين، يغازل وجوده بلطف، يحاول بكافة قواه نسيان أو تناسي ما يقابله من وحوشه اليومية، ينام قرير العين، لكنه يعيد التفكير في كل ما يسعده بين هناء الضمير وإبعاد التفكير في المصير، يسترسل في الأحلام والأماني، فقيمة الأمنية في حالات كهذه، إن لم تتحقق فإنها تحمل بعض الراحة إلى العمق، وهذا ما يجعل حضورها ضرورة متجددة، إن تذكر الفرد ذاك اللباس الأميري الرائع هو ما يدفع الحياة باتجاه الدوران، هو ما يحمل البهجة إلى القلوب المتعثرة والمتعبة من مصارعة الوحوش المتوحشة، لهذا نجد أن لكل فرد منا أميره الخاص، في مقابل كل ما عداه.
********
بين ضواحي الحياة (la vie) الكثير من مستلزمات الروح التي تغرق في جنبات الإنسان بحثا عن مناطق مريحة للغاية، لا يمكن للفرد البشري أن يتخلى عن أميره فهو بحاجة للراحة بين أمواج ضربات وحوشه، فالوحش محتاج للأمير حتى يبقى مصارعا وقاهرا، والأمير بحاجة للوحش حتى يبقى هادئا مستبشرا، والإنسان يبقى بين هذا وذاك، حاملا لهما معا؛ ينطق الأمير بلغة الاطمئنان، وتتعالى صيحات الوحش بعلامات المخافة والاستهجان، يعيد كل منهما الإنسان إلى مربعه الخاص، طمعا في تحقيق أهدافهما المختلفة جسدا وتفصيلا..
لكن الفرد الإنساني يلعب الدوريْن بلا تعب، فتراه من جهة أميرا بجسد وحش، أو وحشا بوجه أمير، لتبقى هاتيْن النزعتيْن مستمرتيْن في التواجد حتى لحظة الخمود النهائيّ.