يا فرنسا لا نود الاعتذار

كلمة آسف لا تعيد الشهداء

“إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، ولا تريد أن تندمج، ولها وطن محدود هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة”. عبد الحميد بن باديس

تتعاقب الأجيال على هذا الوطن، يختلفون في كل شيء، يتباعدون حتى نكاد نجزم بغربتهم عن الجيل الذي سبق، تذهب “القشابية” ويحل محلها ألبسة شبابية، تسقط “العمامة” ويزين فوقها شعر بكل الألوان والأشكال، يتحدثون بلغة لا يفهمها ما سبقوهم، لكن هيهات أن تجد لفرنسا مرحبا هنا، الكل يجمع على كرهها تاريخا وحاضرا ومستقبلا.

جيل رضع حليب الثورة الجزائرية منذ تكوين عظامه، أنشد قسما في المدارس قبل أن يتعلم كتابة اسمه، يحمل في جيناته شجاعة العربي بن مهيدي، وبسالة ديدوش مراد، رزانة زيغود يوسف، وصرخة جميلة بوحيرد “الجزائر أُمُنا” التي جزت بها في أقسام التعذيب، حتى لو أوهمك أنه يتنصل في كل يوم، بكل ما يربطه بالماضي، وأصبح يبحث عن مستقبل مشرق خارج أسوار البطولات، لا تصدقه فإنه غاضب من الوضع الذي آلت إليه البلاد، لا تصدقه حين تراه يرص الصفوف عند المركز الثقافي الفرنسي بالعاصمة، طلبا في التأشيرة، لا تصدقه حين يخلط العربية بالفرنسية، فوا الله ما كره هذا الجيل بلدا في العالم أكثر من كرهه لفرنسا.

الاعتذار الذي يرفع عند كل زيارة رئيس فرنسي، ليس مطلب الجميع، فمنذ متى أخاطت كلمة “آسف” جراح القلوب، وأوقفت نزيف الذاكرة التي لا تود الهدوء..

الاعتذار خلق للمشاحنات الكلامية، للخلافات الدبلوماسية، وحتى للانسحاب من الاجتماعات المشتركة، أو الغياب عن المراسيم الاحتفالية..

فمن أوهم إيمانويل ماكرون بتجدد مطلب الاعتذار، فنحن لا نود أن تطأ قدمه شبرا من أرض مخضبة بدماء الشهداء، لا نود منه إكليلا من الزهور على قبور يعلم جيدا أن لأبيه يد في حفرها، ولا حتى وقوفا أمام نشيد قسما الذي لو أكملوه لوصل لمقطع سيخبره بالجواب.

يا فرنسا قد مضى وقت العتاب    وطويناه كــما يطوى الكـــتاب

يا فرنسا إن ذا يوم الـحــساب     فاستعدي وخذي منــا الجواب

إن في ثــورتنا فصل الـخطاب    وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر

“الاعتذار؟ عن ماذا؟”.. هكذا رد وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنارد كوشنير، كان لابد لنا أن نجيبه ما أخذ بالقوة لا يعتذر عنه، فقد أعدناه بثمن أقوى، فلسنا سويسرا التي اعتذرتم لها بعد أن عبر جدك نابليون بونابرت أراضيها فعبث بأشجار الصنوبر، وحمل معه الطناجر والمدافئ سنة 1800 وأكل أغنامها، فالتعويض لم يتعدى 50000 فرنك سنة 1983.

لكن هنا لو عرضت فرنسا بكل ما تملكه من قوة في هذا الزمن إلى البيع، لن تعوضنا صيحة واحدة في جبال الأوراس، لن تعيد لنا شهيدا واحدا غادر بيته وعاد في كفن من علم مخضب بالكرامة، لن تشفي غليل عفيفة لطخت جسدها بروث البقر تملصا من اغتصاب جنودك الجبناء، لن تضمد ذاكرة طفل حمل في حقيبته مراسيل للمجاهدين في الجبال، لن تستطيع هدم معلمك الوحيد “برج إيفل” وإعادة حديدنا المسروق، وجماجم رجالنا المزينة بمتحفك..

132 سنة صدقني لن تعوضها كنوز الدنيا، ومازلنا نحصد الخراب حتى بعد رحيلك، فتجاربك النووية في الصحراء الجزائرية مازالت تروي بشاعة مرورك من هنا.

“هيهات أن نصفح عن باريس أو نصافحها بعد أن جنينا المر من ثمراتها”، قالها جدنا البشير الإبراهيمي وها نحن على نهجه نعيدها، هيهات أن نطوي تاريخنا باعتذار مسروق أو نبيع قضيتنا بتعويض زهيد، هيهات أن نرحب بأحفاد القتلة، فلا أهلا بك في أرض الشهداء، ولا سهلا بك في شوارع ستذكرك كيف خرجتم منها منهزمين، لا يغرنك التهليل بقدومك، حتى لو ارتفع صوت التصفيق فللطرقات ذاكرة وللوجوه سمات الثوار، وللجزائر تاريخ يفضحكم كلما سرده ما بقي من الأحرار.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version