يا وجهك البعيد.. ويا أنفاسك القريبة

الآن، صار الليل في آخره، الرياح تعصف خارجا كأنها ثائر غاضب سئم كل شيء، وأنا في زاوية البيت أبحث عن خلاص، خلاص من إحساسي بالذنب، خلاص من عيونك المنطفئة حزنا رغم كبرها.. خلاص القاتل من ذنب قاتله يا مقتولتي..

أتخيلك غدا، حين يصلك النص، وأنت تقرئين كلماتي-كلماتك، تلك الكلمات التي يلدها بوحي، ويعمدها حبك.. أتخيلك، وعينيك الواسعتان زائغتان في محجريهما كبحيرة زئبق، كأنها عيون من هبط من نجمة ما في السماء، ولا زال يبحث عنها، وابتسامتك الساحرة، تتعشق ببراءة الطفولة هاربة من كل العقال، كأنها لصبي في مهده، يضحك فرحا، جاهلا لما هو ذاهب إليه في حياته، من هزات وانكسارات، من آلام وخيبات..

أتخيل ذلك، بل وأراه، لا في ما يراه النائم في إغفاءته، بل فيما يراه المتصوف في عروجه، ولحظات صفائه..

تعرفين أننا نبتنا في بعض كزهور برية، كتوليبة لا يتوقع بمكان أن تخرج من أكمتها فيه، ونحن الذين جلدتنا الحياة، بسوط الحياة، وأنبتت طلحا شائكا في فجائعنا وخيباتنا..

في لحظات الصمت، والخلوة، تأتي الأسئلة دائما بوقع حذاء الذاكرة، وتخرج علامة الاستفهام خروج المارد من القمقم، مشتعلة كأنها ألعاب نارية، لحفلة بوح ليلي، بوح لا يكون سوى للورق، بوح يتقيأ الدفء، دفء تكون من حرائق الغياب، جذوة الشوق، ولواعج يزيدها الظمأ لشرب رضاب فاهك حد الثمالة..

آه يا شقية، أنت صوت يتجدد في سمفونية الحب..  بحة تتسلق حلق الفؤاد، مدندنة أغاني شوق الجدات القديمة، بتجديد أصيل.. “أضلاعي أغصان يابسة، تنتظر لقاءك لتورق من جديد”، أليست هاته ترنيمة في كورس شوقك، لم أستطع أمامها الليلة، سوى أن أردد ملء شوقي وشقاوتي “وأنا يا هبلي، أربي أوراقه بعيوني، أحصي عمره الشاحب، وأستحلب له من غيم الشوق، مطرا يخترق تربته، ليورق بعنفوان ربيعي اللقاء، يرمم ما خلفه خريف الغياب”..

آه مرة أخرى يا جنوني الحلو.. دعيني أعيد رسم وجهك الذي شوهته رعونتي..

أحاول أن أنام يا مهبولة، فيضحك النوم من جفني، وهو يهوي عليه بصفعة الأسئلة الجميلة المشاكسة..
كيف انتصبت في أفقي القاتم كقوس قزح، يا لون الفرح في صورتي؟!.. كيف؟..

هل كنت أمشي نحوك بلا وجل وبغير هدى، وكان كل ما سبقك مجرد حلم ممطط أو كابوس لزج، استيقظت منه على إشراقة وجهك الآسر الآسي..

هل كنت في هروبي من الحب، أهرول إلى نقطة تلاقٍ بأنثى هاربة هي أيضا من الحب، ومن روضة ببغاوات إناث المخاط والخضاب؟!..

هل كنت أعلم أنه في تلك النقطة، سيقع الإنفجار الذي كان كوقع النار والجليد معا؟!..

انفجار دوى حبا، وعربد تدلها، فتناثرت له لواعجنا متقدة على أرصفة الوله، قبل أن يعبئها الحب بيديها في تجاويف قلبينا، فامتلأت بها، وامتلأت بي، وغرقنا معا في روح واحدة، لقلبين..

أصرخ وجهك بصمت.. دعيك من كل هذا يا أيتها الأنا.. ولكن ما هذا؟!!.. نحاول أن ندري ونحن ندري، قبل أن نهب بالشرح فتخوننا الكلمات، ونحن من يعتقد الكثير أننا سادة الحرف، وأبناء اليراع الذين رضعوا من ثدي الدواة أسرار الأبجدية..

تموت الكلمات لأن الحقيقة مفجعة، ترينني رجلا يموت ألما، وأراك وهج أنثى ينطفئ خذلانا.. ولكننا نغطي وجه تلك الحقيقة، بمحاولة أخيرة يائسة بائسة للعيش على ذمة الحب، حين ننظر لوجوهنا في مرايا قلوبنا، التي استوطن الآخر منها السواد الأعظم..

عندما فقدتك، كدت أن أفقد حياتي، وتلك قصة مرتبطة باللاوعي، فحين قرأت صغيرا قصة روميو وجولييت للعبقري شكسبير، تصورت الحب هو تلك الدونية المختارة، في حبك للآخر، لأكتشف في مغامراتي الخاسرة دائما، أنه لا يوجد إلا في خيال الكتاب، حلم الشعراء، ودهشة القراء، ولكني ليلتها، حين رأيت الدخان يتصاعد من أصابعك دخان حرائق، تقمصت جولييت، وكنت مستعدا للموت، بل وهبت له روحي، كي من جهة أقول لك مقدار حبي لك، ومن جهة أعلم الآخرين أنها ليست الأنثى دائما من يجب أن تدخل الحب انتحارا..

فجأة تتدخل أيادي الحب، وتعيد القلوب إلى نصابها، تعيدها مبللة بدمع صافي كعبرات اليتم، تعيدها مفرغة من كل نوازع النفس، إلى وشائج الحب.. تعرفين في عالم الحرب، من الصعب بمكان أن يخفي مقاتل وجهه عن مقاتل آخر، كذلك العشاق، لا يستطيعون إخفاء بصمة الحب في أساريرهم، إنهم جميعا، يخضعون لشروط واحدة، مطبوعك في صحف كلامهم، وسيرهم وطرق تفكيرهم.. حتى في دموعهم!..

والحب كالحرب، قاتل ومقتول، آلهة ووحوش، وأنا كنت في الحب وحشك، يا قاتلتي الوديعة، يا آلهتي السمحاء..

لن أكثر عليك، تعرفين تلك القصة، وتعرفين ما قبلها وما بعدها!..

آسف على هذا الفتق والرتق للجروح، ولكني فقط أخبرك أنه من الصعب على العاشق، أن يحدث عن الحب دون ذكر الماضي، كما من الصعب عليه دخول المستقبل دون حب!..

كما أخبرك، وقد تكونين لا تعلمين أني من يومها أعيش بين شعورين، أحلاهما أمر من الآخر، شعور المدان بحايته لأحدهم، وشعور المحب الصب..

شعوران يضاعفان كل أحاسيسي، يعذباني بسادية الجلاد، وأتقبلهما بسادية عاشق..

ولكن أبشري، قد صار لك عاشق سادي.. أراك مرة أخرى تبتسمين لهذا..

حسنا يا سيدة الزمن، ومن له الحق في رسم قوس قزح الإبتسامة على أفق الدنيا غيرك، يا ورطتي الحلوة..
القدر يا سيدة قلبي السرمدية، غيرب ومضحك حد السذاجة، أنت الآن في عاصمة جذورك، تلك البادية التي ترفد المدينة، أو تلك البدوية التي تمدنت وأبقت على بداوتها بالعمد، وأنا في عاصمة القهر التي فرضت علي التمدن غصبا، عرتني من بداوتي وألبستني ضيق أثوابها، ونحن يا أنا منشطرين في الغياب، بين نوستالجيا الحنين لجذور قطعها التاريخ عمدا ولم يقطعها، وحنين النوستالجيا لحد القطع الذي استبدل قاتلا مباشرا، بقاتل مأجور..

سبقتنا قصص حب تشبهنا في جذورها، لكنها لم تستطع أن تكون شبيهتنا، لأن الوعي الذي نكتسبه جاء ليحرق وعيهم منتهي الصلاحية، أو كما تقولين أنت، ببأدق العبارات “لسنا مثلهم”..

الليل الآن يتحشرج في حلق الظلام، وأنا أيضا أحتضر بين يدي النوم، منهكا ومنتهكا، أرى في غبش النوم، يد الغياب وهي ترسم معقوفين من شوق، تحيطان بسر العناق في الأضمومة، بانحناءة خجولة..

وأناغي في ذلك وجهك الهارب، وحضنك الدافئ، أناغي عينيك التي لا أقدر على التمعن فيهما، كفيك التي وضعت قلبي في تجاويفهما، وصدرك الذي استودعته سر خلاصي، يا بقية الحب، في عالم ينتهج الموت له دينا وعقيدة..

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version