يوميات فتى من صنهاجة

نظام الحي (لفريگ): يوم الرحيل

هو يوم مشهود بين أهل «لفريگ» ومتفق عليه بين الجميع، وهو يوم متميز وله ترتيباته الخاصة به. هو مختلف من فصل لفصل حسب الطقس وحالة الجو، وأقساه ما كان في فصل الصيف الحار الذي أقساه إبريل ومايو، وأسهل الرحيل ما كان في فصل الشتاء الذي يبدأ من شهر نوفمبر حتى نهاية فبراير، وأكثره اضطرابا وتأخيرا، حتى أنه قد يتم دون إطلالة من البواه (الرائد) على المنزل الجديد، هو ما كان منه في فصل الخريف وتساقط الأمطار الذي يبدأ عادة مع منتصف يونيو حتى نهاية سبتمبر.

الناس في البادية، وبالذات في فِرْگانْ الزوايا، لا يرضون أن تنقطع تلاوة القرآن أو الذكر أو الصلاة ولو لجزء قليل من الليل، بل قد يتناوبون على قيام الليل من خيمة لخيمة وبعض العُباد دائمو القيام، وسنأتي على تفصيل ذلك عند سبر أغوار ما كان يجري كل يوم وكل ليلة في افريگ الزوايا  وليس كله إيجابيا في نظري.

المهم أن معظم الناس ينامون بعد صلاة العشاء مباشرة وذلك غالبا قبل منتصف الليل بثلاث ساعات ولكنهم يستيقظون قبل أذان الفجر، كبارهم هكذا يُفيقون مع صياح الديكة أو قبل ذلك، وبعد صلاة الفجر بأقل من نصف ساعة مع الإسفار تبدأ مراسيم الرّحيل.

وهناك قاعدتان عند أهل البادية في الرحيل والتهيؤ له. أولاهما أن الخيمة هي آخر ما يطوى من المتاع وهي أول ما يُنصب ويبنى من المتاع عند الوصول للمنزل الجديد. وثانيتهما هي أن كل قطعة من المتاع لابد أن تكون ذات عروة أو يد أو أصبع أو بها ثقب وجاهزة للربط والشد بحبل أو ما شابهه من المتاح من «تِجِكْرِيت» أو «تِسِلْكِيت» أو «تيفاره» أو «آسْكوط» أو «شرويطه»…

الخبطة (المتكأ) تطوى وما تحتها من أعمدة ومساند «توتلاتن» تنظم بحيث تقسم نصفين وتطوى الخيمة على خبطة وأعمدتها في كل جانب منها وتضم أطراف الخيمة لوسطها بتوازن وبطريقة محكمة جدا حيث تصبح كالحمل المتوازي والمتزن وتسمى حينها «عصمة الخيمة» فإذا أضيفت لها الركيزتان مع «أرحال» فتلكم هي «التُّظِيتْ» رحمها الله – لم يعد أحد يذكر اسمها-  وليس كل حمار (أمَكْتور) قادرا على حمل التظيت لأنها ثقيلة جدا ومعروف هو الحمار الذي يستطيع حملها ونسميه « أَزغْرْ» أو «أكَلاصْ» وأما الثور فإنه يحملها دون عناء. وبعد أن صرنا نستخدم الإبل في منطقتنا منذ قرن تقريبا أصبحت المسألة سهلة جدا والحمد لله.

تعتلي التوظيت – داخل أرحال- البنت قبل بلوغها وقد تحمل إلى جانبها حديثي الولادة من الجداء أو الخراف، وغالبا يلطخون ملابسها وتسمعها وهي تشتكي وتبكي طول الرحلة.

أما هودج الأم فهو يسمى «الحِجْبَة» وكانت بسيطة يوم كان الناس يركبون البقر حيث تتألف من «التيزِياتِنْ» و«لخطَير» فوقه الحجبة وهي قماش للتظليل عن الشمس وحرها وللستر كذلك. والثور مدرب جدا حيث يحني رأسه فتضع المرأة رجلها بين قرنيه وتمسك أعواد لخطير ويكون معها مَحرم يعينها حتى تستوي على ظهره ويناولها خزامته (حزامه)، والثور الركوب يكون غالب خَصيا (أزوزال).  

وأما بعد سنين طويلة من الجفاف تخللت عدة عقود من أربعينيات القرن الميلادي العشرين المنصرم، أصبح استخدام الإبل لهذا الغرض أكثر شيوعا وبالغت النساء في تزيين الهودج الذي يتألف مما سبق من تيزياتن بالإضافة إلى رحلهن المسمى « لِحْرَجْ » وله ثلاث قطع تحته، قطعتان على الجانبين هما «ئِشِشَايِنْ» وأحدها «أَشَشَايْ» ثم قطعة تحت مؤخرته على كفل الجمل هي «اِلبِد» بباء مكسورة، لا تخلو جميع هذه الأدوات من كثير من الزركشة الجميلة والمنقوشة على الجلد الذي يغلفها، ورحم الله أمهاتنا «لِمْعَلمات» (صانعات تقليديات) لطالما أبدعن كثيرا في هذا المجال وفِي التباهي في النقوش الجميلة بألوان زاهية ومبهرة.

تتسع الحجبة بارتياح لامرأة واحدة تتربع في الوسط وطفل في حجرها (في العَبون) وآخر بجانبها (في الزر) وما زاد عنهما فهو مرهق لها ويضعف تركيزها بسبب مشاغبة الأطفال وشجارهم الذي لا نهاية له.

ينطلق «المَرحل» ولا شيء يعلو على الدعاء المنطلق من حناجر الجميع وأكثر الناس إكثارا منه الجدة دائما ومما حفظته من الدعاء: «يارب اجعل ذي الرحلة اعلينا… كِيفتْ مَشِيتْ انْبينَا… من مكة واعد المدينة…»

يسير الركب وفي مقدمته الهوادج تتهادى يمينا ويسارا وكل هودج لابد له من فتى يأخذ بخطام الجمل، ويتحين الطريق الأسهل والذي غالبا ما يرسمه البواه  لهم ويلزم أن يكون هو نفسه في مقدمة الركب.

أحيانا يكون المسير خلال الأحراش والغابات الكثيفة مما يتطلب إعدادا مسبقا قبل الرحيل بأسبوع حيث يقومون بقطع بعض الشجر أو بعض أغصانه حتى يتمكن الركب من العبور.

يبقى في الدار بعد ارتحال الناس رجل مبرز وقوي ومعه عُدة إنقاذ كاملة حيث يبقى يتفقد إن كان بقي شيء ويطوف بكامل «المَدِيرَة» متفحصا، يمشي مقتفيا أثر القوم يلتقط كل ساقط أو باق على أثرهم.

عند الوصول إلى المنزل (المُعَرس بالاصطلاح العربي) بفتح الزاي، ينتظر الجميع إشارة البواه حتى تأخذ الخيمة « لِكبيرة » وهي الشمالية مكانها وتنزل أم الخيمة من فوق ثورها أو يناخ جملها فحينها يبدأ انتظام باقي الخيام في منازلهم المعهودة والمعروفة تلقائيا وتبعا لمنظومة أسرية داخلية يفهمها كل طفل في الحي.

يوم المنزَل يوم له طقوسه الكثيرة والتي منها الفصل بين البقر عن صغاره حتى يحفظ المكان ثم يُساق إلى المرعى رغم أنه غالبا يعود قبل الموعد المحدد كل يوم وكأنه قلق. وكذلك يُعطى قليل من الملح لبعض الحمير جزاءً لها على الخدمة وربطا لها بالمكان حتى تعود إليه تلقائيا.

أكبر تَحد في هذا اليوم وليلته هو خَشاشُ الأرض -من أفاع وثعابين وحيات- وبكل صراحة كثير من الناس لا يبالي ولا يأخذ أدنى احتياط في هذا اليوم وكثيرا ما تكون المفاجأة في أّل ليلة غير سارة. وبعضهم يأخذ الحذر والحيطة وبالتالي يأخذ غصنا من شجرة «أِوَروار» ويفرقه لأجزاء ويغلق كل فتحة أو جحر في الأرض بجزء منه وبالتالي يأمن من شر تلك الأفاعي التي اقتحم عليها دارها. وفي هذا اليوم تقل كمية الحليب بصفة عامة وبالأخص الرائب منه إلا إذا كان أهل الخيمة يملكون «الشكوة الحمراء» (قِربة) التي تصلح لمثل هذه المواقف غير أن لبنها ليس مخصصا أساسا للتناول وإنما هي مقصود منها استخلاص أكبر قدر ممكن من الزبدة.

من تخصص البواه أن يراعي كل الأمور عند اختيار المكان المقصود، يتحاشى مكان الأفاعي ومواطن السباع بكل أصنافها والتي كانت منتشرة بكثرة في بلادنا ومن أشهرها الأسد والنمر والدب الإفريقي الذي نسميه «گِرْفَاف أو شَرْتاتْ» وكذلك الضباع والذئاب وأخطر من هذا كله وأشرس كلاب الخلاء المشهورة في منطقتنا قبل ثمانين سنة تقريبا، وكذلك على البواه تفحص المنطقة والتأكد من خلوها من الأحراث حتى لا يقع الصدام بين المزارعين وأرباب الماشية الذين كثيرا ما تسيح أبقارهم ليلا  في تلك الأحراث ويقع الحرج. يلزم في هذا اليوم قطع كثير من أغصان الشجر ذي الشوك لإنشاء زريبة للعُجول وأخرى لصغار الغنم (اللاغُو) وذلك يتم بعد صلاة العصر مباشرة وبعد تناول الوجبة اليومية اليتيمة من كسكس مع القديد والزبدة.

وأول ليلة فيها كثير من العبء على كلاب الحي، التي تُكثر النباح لإشعار الذئاب خاصة بأن للحي حُماةً يذبون عنه وعن حماه.

كاتب التدوينة: عمر سيد محمد 

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version