يولد المرء منّا ورقة ناصعة البياض، تحتاج إلىٰ قلم جيد يُسطر أولى كلماته عليها، ويرسم لها الطريق الصواب والخاطىء ويُظلل على الأخير في رسالةٍ منه لها؛ أن هذا يجب الاحتراس منه لئلا تخونك الخطوات وتُضلِلُكِ الوساوس وتغرقين في ظلامه.
وكان أبي قلمي الجيد جداً، عَمِل جاهداً لتكن ورقته مهندمة، مهذبة، متعلمة، مرتكزة علىٰ مبادئ سميكة، عافر وما زال؛ ليحافظ على رونق وطلّةِ ورقتِه.
“أنا مشروع أبي ورأس مالِه”
مؤمنٌ جداً أبي أن القرآن خير معلم في هذه الحياة، جالب الرزق، ودارئ الكدر والمصائب؛ لذا كان قد خصص عصرية كل يوم لي ولإخوتي حلقة قرآن يتولاها بنفسه، يظلْ قائماً على رؤوسنا تارةً يشجع وأخرىٰ يُرَغِب بالهدايا وزيادة المصروف لمن يُتمم وِرْدَه اليومي تلاوةً وغيباً، يخلق بيننا روح المنافسة، لا أنكر أنه في بعض الأحيان كنّت أتدلل وأتغيب عن الحلقة بحجة المرض، وأظنه كان يعلم أنها حِيلة من حيَلي الفارغة؛ لأنه كان يأتي إلىٰ سريري ويرقيني بالرقية الشرعية وينفث على جبيني، وبعد أن يتأهب للوقوف يقول بنبرةِ ناصح: “لا تمارضوا فتمرضوا”..
حسناً يا ابنتي شفاكِ الله وعافاكِ؛ وإذا شعرتِ بتحسن تعالي وخذي نصيبك من الأجر ولو حتى مستمعة، يا الله كم أحب هذا الرجل الذي يجرني دائماً رغماً عني إلى الجنة، لا يكل ولا يمل، ولا يتوانىٰ لحظة؛ أظنه يحاول إنجاح مشروعه والحفاظ على رأس مالِه..
أذكر أنني في إحدىٰ الحلقات صادفت آية تقول: “وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم”، استوقفتني تلك الآية وقلت: يا أبي يثيرني الفضول حول ردة فعلك عندما أُخبرت للمرة الثانية على التوالي أن أمي تحمل أنثى، هذا لأنني الابنة الثانية لوالدي، فظهرت على شفتيه ابتسامة دافئة سكن معها قلبي وخمد فضولي، ثم أتبعها قائلاً: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كن له ستراً من النار” وفِي رواية أخرى ابنتان أو أختان، وأتبع الحديث النبوي مُعقباً أنتن بوليصة تأمين أحتاجها يوم القيامة، وسكت لبرهة ثم قال: إذا برأيك كيف تكون ردة فعل المرء تجاه درعه الذي يقيهِ من النار؟، أنهى سؤاله وهو يمسح بكفه على رأسي وقد رأىٰ ابتسامتي العريضة، فَرَضِيَ وقد رضيّت.
“ملاكـي المقدس”
لم يُخلق أي منّا كاملاً، ولكن؛ نقصانه بالنسبةِ لي كمال، سهيلٌ ساطع في سمائي، بدر مكتمل في جميع أشهُري، مبدئي وعقيدتي، قوتي وإيماني، سلامي وشفائي، معزوفتي هو وغنائي، ترنيمتي ودعوتي في صلاتي، قلمي الرائع الذي رسمني وحدد اتجاهاتي، شخصيتي وهندامي، حرفي وكلماتي، أنا بكل ما أنا عليه، وأقسم يا أبي أنك بكلِ مَن في حياتي.