العلم نور يضيء في أحلك الليالي، به تزدهر الأمم، وتنجلي الظلم، من أراد رفعة فعليه بالعلم، ومن رغب في الجنة فعليه بالعلم، وكل أمة تتطلع للعلياء عليها أن ترفع قواعد العلم ليستقيم البناء.
والجزائر كغيرها من الدول تتطلع لأن تكون في القمة فنجدها تحرص على تعليم أبنائها وفق مراحل ثلاث:
“المرحلة الابتدائية: والتي تدوم لمدة خمس سنوات يُدرّس فيها أستاذين واحد للغة الفرنسية والآخر لبقية المواد، المرحلة المتوسطة: تدوم لمدة أربع سنوات يكون فيها لكل مادة أستاذ متخصص، المرحلة الثالثة وهي المرحلة الثانوية، وتدوم لمدة ثلاث سنوات وكسابقتها لكل مادة أستاذها المتخصص، يلي هذه المراحل، التعليم الجامعي الذي تُصقل فيه التخصصات”.
ولو لاحظنا جيدا لوجدنا أستاذ التعليم الابتدائي يُدرّس جميع المواد، وبالتالي فالعبئ الأكبر يقع على كاهله خصوصا وأن أعمار التلاميذ لا تتجاوز الثانية عشر، أي أنهم براعم في أول ظهورهم يتطلعون للنور ويحاولون استقاء المعارف من معلمهم، أو أنهم ماء معين إن لم يوضع في إناء سليم سيصعب التحكم فيه؛ لذا تعد المرحلة الابتدائية قاعدة التعلم، فالتلميذ خلالها يتعلم أساسيات اللغة والرياضيات ومختلف العلوم، فإن بُنيت بناءً سليما استقامت بقية المراحل وسهلت، وإن كان البناء معوجا اعوجت بقية المراحل وصعب إصلاحها، تماما كقصر مشيد لم يلبث أن سقط لأن القاعدة كان بها اعوجاج في أحد جوانبها لم ينتبه له العمال!
ولأن هاته المرحلة قاعدة كان أستاذها أمام التحدي الأصعب فهو يحمل مشعل التربية والتعليم معا أكثر من غيره، خصوصا وأنه يدرس لمدة تقارب السبع ساعات يوميا، بل ويضاف إلى ذلك مرافقتهم للإطعام ومراقبتهم في الاستراحة، وهذا ما يجعل التلميذ يقضي الوقت الأكبر رفقة معلمه، لتتحول حينها الرسالة التعليمية إلى رسالة تربوية يلعب فيها المعلم دور الأب حينا ودور الأم حينا آخر…
ويحضرني هنا موقف لعب فيه معلمي دور الأب بامتياز، حين تشاجرت مع زميل لي شجارا عنيفا التف فيه الجميع حولنا، بعد خروجنا من المدرسة مباشرة، فنادانا المعلم رغم أن وقته كان قد انتهى بل وكنا قد خرجنا من المدرسة! ففك عقدة الخصام دون تعنيف تماما كما يفعل أبي في البيت.
ولو ذهبنا للجانب التعليمي لوجدناه -أستاذ التعليم الابتدائي- بطلا بحق فهو من عليه أن يجمع بين مختلف العلوم فلا بد له من إتقان الإعراب، والكتابة، والحساب، والتلحين، والرسم والتلوين، “وهنا يحضرني موقف حدث لي في قسمي علما أني معلمة، حيث اضطررت في بداية السنة لرسم طائرة وأنا التي لا تمد للرسم بصلة فحاولت أن أرسمها وبالفعل رسمت شيئا يشبه الطائرة ولحسن الحظ أعجب به تلاميذي، ومنذ ذلك اليوم كان لزاما عليّ أن أتقن أساسيات الرسم- فسيجد الأستاذ نفسه أمام خيال عظيم يعيش فيه الصغار لذا وجب عليه أن يقطف من كل بستان باقة.
ورغم الدور العظيم الذي يلعبه أستاذ التعليم الابتدائي نجده أقل حظا بين أساتذة التعليم فمثلا تصنيفه في سلم الرتب في الدرجة الحادية عشر “11” بينما بقية الأساتذة أعلى رتبة منه، ونجد دخوله المدرسي مع بقية الأساتذة -في شهر سبتمير- في حين أن الخروج يمتد لشهر جوان -وهنا أقصد توقف تقديمه للدروس- بينما يتوقف البقية في شهر ماي!
وفي هذا الصدد قد حدثت معي مواقف آلمتني كثيرا، فها نحن مقبلون على عيد الفطر ولم نجري الامتحانات بعد وهذا ما دفع تلاميذي لسؤالي في كل صباح: معلمة متى نجري الامتحانات؟ معلمة متى يحين موعد الإجازة الصيفية؟ معلمة أختي قد أنهت امتحاناتها وذهبت لقضاء شهر رمضان في العاصمة فمتى أستطيع أنا الذهاب؟ فأقف أنا عاجزة عن الإجابة متألمة في صمت فأن أقدم لهم دروسا في رمضان وغيرهم قد استراح فهذا أمر يزعجهم ويحد من قدراتهم..
وكذا استدعاء الأستاذ للحراسة في الامتحانات الوطنية -امتحان شهادة التعليم الابتدائي، امتحان شهادة التعليم المتوسط، امتحان الباكلوريا- ففيه إجحاف وظلم كبيرين فنجده يستدعى في كل الامتحانات بينما غيره يحرس في طور أو طورين فقط! بل ليس هذا كل ما في الأمر حتى نظرة المجتمع له فيها نوع من الاحتقار والتقليل من شأنه، فكثيرا ما سمعت عبارات الاستهزاء مثل: معلمة! هذا كل الذي أصبحت عليه، وهل تدريس الصغار يحتاج جهدا! درست كل هذه المدة؛ للتدريس في الابتدائي وغيرها الكثير… وحقوق أخرى سلبت منه عنوة.
هكذا هو أستاذ التعليم الابتدائي رسالته سامية إذ تجمع بين التربية والتعليم، تراه يجتهد ويبدع فينحت في عقول الصغار منحوتات من حنان مستفيض تبقى معهم ما بقوا “فالعلم في الصغر كالنقش على الحجر” بل وتربيهم، تعلمهم، تلهمهم، تشجعهم، وتفتح أمامهم آفاقا عظيمة، فمتى يستفيق المسؤولون ويعطون لكل ذي حق حقه؟ متى تنجلي غشاوة الظلم عن أعينهم ويحكمون بالعدل؟ متى يعود حق سلب من معلم جورا؟!
