كانت الساعة تقارب السابعة مساءً حين قررت زيارة شاطئ البحر، فلقد كنت كفقاعة تحاول في حذر أن تحافظ على الهواء الذي بداخلها وهي تدرك تماما أنها لن تصمد طويلا، لذا عليها اختيار مكان مناسب لتنفجر فيه، وصادف ذلك أن كنت أجوب الشوارع بسيارتي عائدة من عملي، فمررت بداية لأطلب قهوة مركزة وأنا أردد في نفسي: سأرتشفك أيتها السمراء علّك تطفئين نار الغضب بجوانحي، فهذا ما تقوله صديقتي فلم يسبق لي أن تناولتك، وويحها إن لم أجدك كذلك..
حين وصلت لأقرب شاطئ من منزلنا كانت الشمس قد ذابت في الأفق وتلاشت وسط بحر هادئ يرسل قبلاته للشاطئ في فرح، نسمات صيفية تكتسح المكان، صخور مختلفة الأشكال ولكنها شكلت انسجاما رائعا فيم بينها، جلست وكوب القهوة بين أصابعي.
كان رذاذ البحر يبللني، ويبلل أسقف أجساد قد وقفت على الصخور في صمت يصم الآذان، فهدوؤهم يسمح لضجيج الفوضى داخلي بأن يسمع، أو لعلهم يسمعونها أساسا لذا وقفوا ينصتون في صمت، يتلذوذون بسماعها كما يتلذذ العاشق بالإنصات لغناء معشوقته، أو لربما هم مثلي تماما: عقل مشحون بفوضى دائما ما تخترق ضفاف حاضري، مزيج من التناقضات، روح مهترئة أتعبها الترقيع، وقلب قد يمسه الصدأ في أي لحظة، بل إن هذا الجسد الصامد ليس إلا ميدانا لحرب ضروس نشبت أنيابها فيه دون هوادة، فمجتمع يقدس التبعية ويبجل النسخ المكررة لا يمكن العيش فيه ولا التعايش مع أفراده في سلام.
ارتشفت قطرات من كوبي وحاولت أن أتلذذ بمحتواه ولكن لا فائدة، فشغلت بتأمل الوجود عنه، وبينما أنا في حالة التأمل تلك إذ تراءت لي بين قبلات البحر للشاطئ فتاة اعتلت الصخور وهي تصرخ! للوهلة الأولى ظننت أنها كفقاعة -مثلي تماما- منظر البحر لم يخفف من غليان روحها، فعمدت للصراخ لعل ذلك يطفئ مراجل الغضب داخلها، ولكن رأيتها تحاول أن ترمي بنفسها وسط تلك الأمواج فوقفت في فزع أنتظر من يهب للمساعدة، ولكن يا حسرة! ما من بطل يقدم على المعركة! ما من أحد يهتم! أيعقل أن تصل القسوة بالقلوب لهاته الدرجة!
حاولت أن أصرخ أن أنبه الجميع لمكانها، ولكن لا فائدة كنت قد أصبت بالخرس! فركضت في هلع، والعجيب أني لازلت حاملة كوب القهوة في يدي! ولكن المفاجأة أن الفتاة تشبهني! لا بل إنها أنا خلف هذا الجسد الصامد!
فها هي ندوب الجراح تملأ القلب، والروح تملأها آثار الترقيع، هاهي ذي الحرب ناشبة أظافرها خلف صدرها يمكنني أن أراها: أحلام وطموحات تحاول أن تخرج للنور ولكن العادات الجوفاء تمنعها، وهناك على اليمين معركة أخرى طرفاها: شهوة الملذات وخوف من الله في الخلوات، وعلى الشمال معركة أخرى: حقد وتسامح، كره وحب.. معارك كثيرة تضرم نارها داخل صدرها..
بل داخل صدري أنا، فبت أصرخ: ألا ياحرب انطفئي فشواظ نارك يكويني، ألا يا حرب رفقا بقلب يكاد يصدأ، ألا يا حرب رفقا بصبية لم تزل غضّة بعمر الياسمين…ووسط صراخي الأبكم وتوسلاتي الباعثة على الشفقة، رأيت شهابا من قبس أنار لب فؤادي فسكنت الجوارح، وتلاشت ندوب القلب في لمح البصر، وتعافت الروح ورفرفت في فرح، وسمعت مناديا ينادي: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”، فأدركت أن بلسم الجراح ليس بحرا ولا صرخة، ليس تأملا ولا قهوة.. بل آيات تتلى في خشوع تداوي الأرواح المهترئة، وتطمئن لها القلوب الصدئة، وتسكن لها الجوارح القلقة.
كان شريطا مر أمام عيني حين كنت غارقة في تأمل الوجود، فنهضت باسمة وفي يدي كوب القهوة الذي رميته في أول سلة صادفتها.. وأنا في طريقي للبيت إذا بمناد ينادي “الله أكبر، الله أكبر”.. فأدركت أن وقت الصلاة قد حان وعلمت أن الأمر لم يكن إلا حلم يقظة كالعادة، ولكن مع ذلك انشرح صدري وارتاح.