أوجين شريدر يفسّر السلوك البشري بالبيولوجيا الإنسانية
بقي السلوك البشري وَرَدّةُ فعل الإنسان مبنيان على تأويلات واعتقادات كثيرة ومختلفة، وقد اعتمد العلماء والمفكرون على الكثير من أدوات البحث والرصد من أجل إرجاع هذا السلوك أو تلك الانعكاسات إلى سبب بعينه، أو أسباب متجذّرة تعتنق المنطق الذهني، وتقترب من التقبّل العقلي.
ومِن هؤلاء الفلاسفة نجد الفيلسوف أوجين شريدر والذي يرى بأنّ للبيولوجيا البشرية دورا هامّا في نشأة السلوك على كافة المستويات، لكّنها تبقى غير كافية حيث يقول أوجين شريدر : “الجهاز العضوي هو الوحيد القادر على تأمين الاتصال بين البيولوجيا والثقافة”.
أوجين شريدر | التقدم وتأثيره على السلوك البشري
لقد شغل مفهوم التقدّم العالَم الإنساني بشكل كبير ولمدّة طويلة من الزمن، ممّا جعل الفرد الإنساني خلال هذه الفترة بالتحديد، يعمل جاهدا من أجل إدراك المعارف وحصر اليقين ضمن دوائر الشكوك.
وبالفعل قد نجح إلى حدّ بعيد في ذلك، ولكنّ هذه العملية – التقدّم – قد راحت تخطو خطواتها الأولى ببطء شديد، مثـلها في ذلك مثَل السلحفاة العلمية ضمن المجال التجريبي حصرا.
هذه الوضعية لم تلائم الشغف المتزايد لدى الفرد البشري، وتوقه إلى التقدّم السريع، خاصة بعد اختراع الكتابة، وقد بلغ قمّة هذا التسارع بعد انتاج المطابع لأطنان من الكتب.
هذه الاختراعات مكّنت الفرد الإنساني من التحرّر من عبودية الذاكرة البيولوجية وآفة التناسي أو عاهة النسيان إلى حدّ بعيد، إذ صار الإنسان لا يستطيع التعامُل مع التعقيد في عالمه الخاص دون اللجوء إلى محرَك البحث غوغل..
قراءة مواضيع على صفحات النت المختلفة، قراءة إحدى الكتب المتخصصة أو مراجعة التغريدات التي تخص الموضوع ذاته، وكل هذه الوسائل والمعطيات صارت محفوظة في ذاكرات رقمية أو على صفحات بين دفات.
بل إنّ الذاكرة الإنسانية والفيسيولوجية بالأساس قد أقصيت من اهتمامات الاعتماد عليها، حتى عند التلاميذ الصغار، فالكثير من الامتحانات صار الاعتماد على الوثائق خلال انجازها أمرا جائزا تحت مسمى: (Open book)، إذ لم يعد التلميذ يعتمد على ذاكرته الخاصة سوى في عملية التنسيق والتخطيط في أبسط صورهِما.
لقد فقدت البيئة المعنى الشامل في حدّة استعمالاتها كحارسة للقواعد الصارمة أو العقائد المقدّسة، بحيث راحت هذه الأخيرة تجاري التقدّم التقني الهائل الذي أثّر على سلوك الشعوب والأفراد.
فقد تغيّر دور القشرة الدماغية من جمع الشروط الآلية لأكبر عدد ممكن من الانعكاسات التي تنتج عن اتصال الفرد بالظواهر الخارجية، إلى تنظيم كلّ ما تحمله الحواس من رسائل باتجاه المراكز التفكيرية والتنسيق ما بين مسارات الاستجابات، تلك الصادرة أو الواردة عن المركز..
بحيث احتفظ الدماغ بعمله الطبيعي لحدّ الآن، والمتمثل في إعادة صياغة الترجمات المختلفة لكل ما يرده من المعطيات الخارجية.
أوجين شريدر | السلوك البشري والبيولوجيا الإنسانية
والنتيجة من هذا كلّه هي أنّ البيئة المغلقة لأيّ سبب كان – الحجر الصحي بسبب انتشار إحدى مشتقات فيروس كورونا على سبيل المثال – قد تؤدّي إلى فقدان السيطرة على هذا التقدّم الثقافي الفلسفي، كردّة فعل على التشويش الخطير الذي يصيب الجسم البشري معطيا له الانطباع بأنّه قد مرّ بمرحلة شاقّة جدا كنتيجة لعدم طبيعية المرحلة.
ما هو معروف في العلوم التجريبية هو مبدأ الحتمية – لستُ هنا طبعا بصدد مناقشة دقّة هذا المبدأ العلمي المعتمَد – يعني أنّ الأسباب نفسها تعطي الاستجابات ذاتها.
وبالتالي يعطينا هذا المبدأ أداة مهمّة قد تساعد في الكشف عن مدى ارتباط الحياة الفكرية بالحالات الجسمية للإنسان.
وتظهر هذه الارتباطات بشكل واضح أثناء بداية نمو الطفل من حيث اعتماده في اكتشاف العالَم من حوله إمّا على توجيهات الأقربين منه وحفظها في الذاكرة آليا، أو التجربة وتسجيل النتائج عمليا في ذاكرته الفسيولوجية أيضا، كونه غير قادر في هذه السن على القراءة أو التعامل مع الحواسيب والشاشات بشكل مقصود إلى حدّ متطوّر.
ومن هذه الحالة يمكننا أن نستنتج بأنّه من الصعب ربط كافة الأنظمة الثقافية بما يحدثه الجسم البشري لدى الإنسان البالغ كنظام من الانعكاسات التي تربط الجانب البيولوجي لديه مع التحريضات الخارجية المؤثرة عليه.