نَسَمْتُ مِن رُوحِ جَدِّي نَسْمَة مُحَمَّدِيَّة
فَمَلَئَتْ حَيَاتِي بَسْمَةً وَسَعادةً أَبَدِيَّة
اجْتَزَأْتُ مِنْهَا مَا اسْتَطَعْتُ قُوَّةً وَرَاحَة نَفْسِيَّة
أتْمَرَتْ رُشْداً رَشِيداً رَاشِداً وهِمَماً عَلَيَّة
تشِعُّ طُمُوحاً اجْتِهَاداً سَكِنَةً وَمَحُبًّة فُصُولها وَرْدِيَّة
تَنْمُو بِبُسْتَانِ جَدِّي وَتُزَيِّنُهُ بِأَلْوَانِهَا البَهِيَّة
عَلى جَنَبَاتِهِ تتمركز ثلاتة أبواب رئيسية
تحرصها قلعة شامخة من الحضارة الرومانية
بحصونها المنيعة وهندستها المِعْمَارِيَّة
ظلت على مر التاريخ قاعدة من القواعد العسكرية
حِصْنٌ مَنِيعٌ وقوة ضاربة ومركز من المراكز الإستراتيجية
أبناؤها يسمونها قَصَبَة لِمكانتها التاريخية
في قلوبهم وفي موروثاتهم التقافية
يتغنون بها في أشعارهم وفي قصائدهم الزَّجَلِيَّة
يرسمونها واقعا وخيالا على لوحات فنية
مُتربعة على قِمَمٍ من الجبال العَالِيَّة
حِجَارَتها بُرْكَانِيَّة مِنْ أُصُولٍ غُولِيَّة
طَبِيعَتُهَا جَبَلِيَّة وَخُصُوصِيَّتهَا مرْڭاوِيَّة
أبصرت بِعُيُونٍ دَامِعَةٍ حَزِينَة تَقِيَّة
مَقَابِر لِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ عَن النِّسْيَانِ أَبِيَّة
مُحَاطَةٍ بِزَرَابِي مِنْ وُرُودٍ بَنَفْسَجِيَّة
تَسْتَظِلُّ بِظِلِّ حَدَائِقٍ مِنْ أَعْنَابٍ سَجِيَّة
وَرُمَّانٍ وأَشْجَارِ زَيْتُونٍ شَرْقِيَّة وَغَرْبِيَّة
جُعِلَتْ لِعَابِرِ السَّبِيلِ مَقْصداً ومَحَطَّة رَسْمِيَّة
لِفَقِيرِ الرُّوحِ زَادًا وَلِطَلاَّبِ العِلْمِ أَلْوَاحًا خَشَبِيَّة
لِصَدْعِ جِرَاح القُلُوبِ التِي أضْحَتْ فَرِيسَة حَتْمِيَّة
فِي مَرْمَى جُبْنٍ وغُبْنٍ وجَهْلٍ حَالِكٍ أَسَّوَادٍ وَجَاهِلِيَّة
كلمات صادقة عن علم أقولها لكم حروفها دَهَبِيَّة
ليست مُفَاخَرة بِنَسَبٍ ولا بعِلْمٍ وَلاَ عَنْتَرِيَّة
بل حُبًا يَسْكُنُ وِجْدانِي وإكراماً لِكُتُبِ التاريخ المنسية
لأسجلها أَلَماً وَأَمَلاً على صفحات كتبٍ أوراقها فِضِّيَّة
لا أَملُّ ولا أتراجع عن سؤالي لربي في السر والعلانية
أن يرزقني الصدق في القول والعمل والإخلاص في النية
…………………
أَحْبَبْتُ نَظَرَاتَ جَدِّي فِي قَبْرِهِ
وَتَحِنَّتُهُ إِلَى أَوْطَانِهِ
وتَشَوُّقهُ إلى إخْوَانِهِ
وَبُكَاؤُهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ زَمَانِهِ
فَسَاقَتْ الأقْدَار لِلْعَالَمِينَ رِيحَ جَدِّي وأخْبَارهِ
تحْكِي عَنْ عَلاَّمَّة عَنْ غُولٍ مُتَمَّكِّنٌ مِن عِلمِهِ
مُهَنْدِس وفقيه مُتَغَوِّلٌ في فِقْهِهِ
وَلاَّهُ السُّلْطَان المَنْصُور الذَّهْبِي قاَظِيًا إبَّان حُكمِهِ
بِقَبِيلَة فشْتَالَة تَرَكَ قَصَائِداً تَتَغَنَّى بِحِنْكَتِهِ وَعَدْلِهِ
وَمَوْرُثْ تَقَافِي غَنِيُّ عَنِ التَّعْرِيف يَرْوِي أَهَمَّ إِنْجَازَاتِهِ
وَظَهَائِرٌ شَرِيفَةٌ مُنْذُ تَخَرُّجِهِ حَتَّى وَفَاتِهِ
تُوَثِّقُ لِحُبِّهِ وَتَفَانِيهِ وَتَقْدِيرِهِ
لِجَسَامَةِ المَسْؤُلِيَّة قَيْدَ حَيَاتِهِ
وَظَهِيرٌ شَرِيفٌ مِنْ سِتُّمِائَة عامٍ مَضَتْ عَنْ وَفَاتِهِ
خَاطَبَهُ السُّلْطَانُ مِنْ خِلاَلِهِ
وَعَيَّنَهُ طَبِيبًا رَئِيسِيًّا مُشْرِفًا عَلَى تَطْبِيبِهِ
وَمُأْتَمَن عَلَى كِتَابَةِ أَسْرَارِهِ
في جَامِعَة القَرَوِيَّين أَثْبَتَ عُلُوَّ كَعبِهِ
فَكَانَ طَالِبَ عِلْمٍ مُتَفَوِّقٍ بِشَهَادَة أَسَاتِدَتِهِ
وَنَالَ شَرَفَ التَّدْرِيسِ رَغْمَ صِغَر سِنِّهِ
وَأَرَّخَهُ المُؤرِّخُونَ كَوَاحِد مِنْ كِبَار عُلَماَءِ قَوْمِهِ
سِيدِي أَحْمَد الغُولْ دَخَلَ التَّارِيخَ مِنْ جَمِيعِ أبوابِهِ
مُبْدِعٌ في أرْجُوزَة طَبِيبٍ عَاِرفٍ بِزَمانِه
مُتَصَوِّفٌ مُتَدَّبِّرٌ فِي كِتَابِ ربِّهِ
مُنْظَبِطٌ لِتَعَالِيمِ دِينِهِ
مُحِبٌّ مُتَتَبِّعٌ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِ
مُحَافِظ عَلى مَوْرُوثِ شُيُوخِهِ
دَفِين السْمَارَة بِالسَّاقِيَّة الحَمْرَاء جَدِّ أجْدَادِهِ
وَبِسِيدِي بُوجِيدَى بِفَاس مَسْقِطَ رِأْسِهِ
وبِبَاب أغْمَات بِمُرَّاكُش عَاشَ أبَائِهِ
…………………
لَيْسَ بِقَرِيبٍ فِي التَأْرِيخِ وِلاَ فِي الزَّمَنِ
لَكِنَّهُ مُتَرَبِّع فِي القَلْبِ وَالرُّوحِ وَأنِيسٌ فِي المِحَنِ
ومَنْبَعٌ لِلْاجْتِهَادِ وَالنُّبُوغِ وَالرُّقِيِّ وَرَافِعٌ لِلْهِمَمِ
وَدَاعِيَّةٌ مِنْ دُعَاةِ العِلْمِ وَالحُبِّ فِي الله وَالسِّلْمِ وَالسَّلَمِ
مُبْدِعًا مُتَشَبِّتًا مُوقِنًا مُؤْمِنًا بِالوَطَنِ
قُدْوَة حَسَنَة فِي الانْتِمَاءِ وَالوَلاَءِ فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ
فَكَانَ كُلُّ مَا أَبُوحُ به أَحَاسِيسٌ
جَيَّاشَة في غَيَاهِيبِ النِّسْيانِ
حَقِيقة تنْقَشِعُ وتتَلاشَى بِها أحْزانِي
أَعِيشُها كَحُلم في يَقَضَة يَهُزُّ كِيَّاني
وَيَقَظة في حُلْم يَلْمَسُها وِجْدَانِي
أَلِفْتُ فَرْحَتِي وَأَحْلاَمِي
لِحَيْتُ طَرَقَتْ بَابَنَا الأَشْجَانِ
بَاحَتْ نَظَرَاتِي لِلْحَاضِرِينَ بِهَوَاه
حِينَهَا وَبَكِيتُ يَوْمَ فارقنا الخِلاَّنِ
عَلَى نَاصِيَّة وِسَادَتِي أَلْقَاهُ فَجْراً وَيَلْقَانِ
يُعَزِّينِي مُبْتَسِمًا لاَ تَحْزَنْ
لِفِرَاقِ الحَبِيبِ وَاسْلُكْ طَريقَ الإِحْسَانِ
يُرشِدُني وَهُو فِي قَبْرِهِ
طَريقَ نور الهدى نَبَاتُه مِن الرَّيْحَانِ
فَلم تَعد تُطربُني عُطُور الأحْيَاء كُلّهَا
كَقَصِيدَة طَالَها النِّسْيَانِ
ولم تَعُدْ تُغْرِينِي الحَسْنَاءُ كَعادَتِها
فَجَمالها مَعركة سِلاحُها رَبَّانِي
أنا الذي عشت الشيخوخة أيام الصبَا
فأصبحت جداً وقُوراً للصبْيانِ
وأنا الذي خبرت دروب الحياة فاسْتَسْهَلْتُهَا
كَاسْتِسْهَالِ صَيْدِ صِغَارِ النُّسُورِ لِلْجِرْدَانِ
أهْفُو وَلاَ أمْضِي لِما يعيبني ولاَ أَتَحَجَّجُ بِالنِّسْيَانِ
فروح جدي وحبه ودعائه بِدُعَاءِ القُرآنِ
وتَضرُّعِهِ لِرَبِّ العالمين سِتْرٌ وحِجَاب مِنَ الشَّيْطَانِ