في طفولتي عشت فترة في دولة خليجية وذات مرة دخلت أحد المحال التجارية وتبضعت ولما انتهيت توجهت نحو الكاشير لأدفع الحساب فإذا بالكاشير يخاطبني كيف حالك يا ابن النيل؟.. لم أفهم ماذا يقصد بابن النيل ولماذا النيل تحديداً الذي لفت نظره في مصريتي؟!
ذهبت لأمي وقلت لها ما حدث معي، فقالت لي: أكيد من خاطبك سوداني الجنسية فهو يقصد نهر النيل شريان الحياة يجمع بينكم أهل مصر والسودان فأنتم أولاد النيل، ترك الموقف يقيناً في نفسي أن السودان أقرب الدول إلى مصر، وأن لولا سيكس بيكو لكانت دولة واحدة، كبرت وقرأت التاريخ فوجدتها دولة واحدة فعلا حتى عزل محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية بعد إنهاء العهد الملكي وتولى جمال عبد الناصر رئاسة الجمهورية فانفصل السودان عن مصر، انفصلت الرئة عن القلب.
لا يسعني المجال في الخوض في تفاصيل وأسباب الانفصال، وإنما ما أستطيع قوله أن انفصال الحكومات الذي تسببت فيه الممارسات الخاطئة للساسة في الدولتين، لم يفصل الشعبين بل ظل التلاحم بينهم وبقيت أواصل المحبة والود بينهم، فكثير من أهل السودان تعود أصولهم لمصر.
في طفولتي أيضاً وأنا في حي الأشراف الذي تقطن بِه عائلتي، كنت أجالس كبار السن فأسمع اسم وزير سوداني هُو مدثر البوشي رحمه الله أول وزير عدل في السودان بعد إعلان الجمهورية، كان يتردد اسمه عند ذكر الآباء والأجداد، فكبار السن يقصون علينا تاريخ الأجداد حتى لا ينسى الأحفاد، وكنت أتسأل بسذاجة الأطفال كيف يكون لنا أهل في السودان ونحن مصريون؟.. وكيف يأتي لزيارة أقاربه بمصر رغم المسافة البعيدة ويتكبد عناء السفر بدون طائرة؟
لكن الإجابة تأتي من الشيخ البوشي نفسه فترك بيتين من الشعر لما قرأت أحسست أن الشعر كُتب لي، فينشد عن مصر قائلاً:
هي قـبـيـلي إذا حرمت قـبـيـلي
ويـمـيـنـي إذا فـقـدت شـمـالـي
طابت فيها منابت الأصل قدما
وبسودانها الـفـروع الـتـوالـي
القاضي مدثر البوشي كان من دعاة وحدة وادي النيل، كافح ضد الاستعمار الإنجليزي ورأى أن التوأمة مع مصر هي السبيل لكفاح مشترك لإجلاء الإنجليز عن بلادنا، وفي شعره كثير من القصائد التي ذكر فيها دعوته فهو القائل:
وفِي النيل رأس العروبة يرعى
حماها وكـف المعارف تـنـدي
فــلا تحقروا ذمة النيل إنـي
ارى تـوامـيــه آفـاقـاً وجــدا
إذا وحدة النيل شيدت وشدت
عـراها فـقـولـوا بلغنا الأشـدا
أتمنى أن لا يتم إقحام الشعبين المصري والسوداني في بئر الفتنة، فمصر والسودان شعب واحد في نظر العلم والتاريخ وإن فصلتهم الحدود الجغرافية، وكما نزح كثير من المصريين إلى السودان في عصر أسرة محمد علي، هاجر العديد من أبناء السودان للعيش بمصر، فوحدة الأصل والوطن والدين أحكمت بينهم أواصر الجوار..
رسالة من القلب ابن النيل مصري وسوداني.