لن تكون نهايتي هي الزواج بأحدهم ومن ثمَّ تربية أطفال والانشغال بهم، ثم يصبح أكبر همي هو غدائهم وغسيلهم، لم أتعلم طيلة حياتي ليأتي شرقيّ يتحكم فيّ وبمستقبلي، أريد السفر، العمل، الانطلاق بعيدًا عن تلك الضغوطات، التي لا أرى لها قيمة ولا تستحق العناء أو المحاربة من أجلها.
في البدء، ما علينا أن نوقن به وليس فقط نتعلمه، هو أن الجميع لديه حروبِه ،كلُُ يسعى لأن يطوّر نفسه”من وجهة نظره”، كلُُ يخوض الحياة ولا يريد أن يخرج منها سوى بانتصارًا مهما كان صغيرًا.
إن المرأة خُلقت بطبعها ليسكن إليها آدم وتطمئن به، زُرعت بداخلها الأمومة والحب منذ كانت في رحم أمها، خُلقت ضعيفة، ومن ذلك الضعف تتولد قوة تحمل لا يقدر عليها رجل، لكن اليوم تحارب المرأة نفسها طبيعة المرأة، تراها تستهين بالزواج والإنجاب بل وتحاربهما أحيانًا، ساخرةً ممن يمضين حياتهن في الطهي والتربية وكأنها ترى أن ذلك العمل على قدرٍ من اليُسر يستحق الاستخفاف به والتندر عليه.
إن اختارت أنثى أن تمضي حياتها بين عملها ودراستها، فلا حرج عليها، هي حرة في اختيارها، لكن لتعلم في خضم معركتها مع الحياةِ الخارجية، أن هناك من تحارب الحياة أيضًا من داخل بيتها، هي تحارب لتُنجب أطفالًا أسوياء، يعرفون ما لهم وما عليهم، يتعلمون دينهم ويعلمونه، يتعلمون أبجديتهم، هي تحارب لتُنجب للمجتمع أمًا فاضلة وأبًا مسؤول.
لا أتحدث الآن عن المجتمعاتِ القهرية، التي لا زالت تعيش في غياهبِ الجهل، أولئك الذين يُجبرون فتياتهم على الزواج وترك تعليمهم، ويوكلونها مهمة “الخدمة” بلا حولٍ لها ولا قوة، هناك فرق سيدي القارئ بين الأم التي تزوجت لتُربي، والأم التي تزوجت لتخدم.
إن حديثي الآن، عن اللواتي اخترن بأنفسهن التضحية بالعالمِ الخارجي من أجل سلام عالمهِن الداخلي، تلك التي تقص على ولدِها كل ليلةٍ حكايةً لأبطالِ إسلامنا، لتُنشئه شجاعًا، لا يهاب إلا اللّه ولا يخشى في الحق لومة لائم، وتلك التي تقضي ليلها تُحدٍث أطفالها عن عظمة لغة الضاد، وأنهم مهما اكتسبوا من لغاتٍ فإن لغتهم الأم هي الأعظم، ولكي يفهمو دينهم عليهم أن يتدبروا قرآنهم، ولكي يتدبروا قرأنهم عليهم أن يتقنوا لغتهم، حتى في أعمالها الروتينيه تؤجر، فهي تؤجر على كل أعمال المنزل التي تستهين بها إحداهن، زاعمة أنها أعلى منها شأنًا، لترفعها عن تلك الأعمال.
لا أنكر أنني دائمًا في صف المرأة، وأن الدين الإسلامي لم يفرض على المرأة مهمة الخدمة داخل المنزل، بل وجب عليها التربية فقط، وإن قامت بتلك الأعمال فهو فضل وليس فرض، فقد كان الرسول “صلى اللّه عليه وسلم” يحيك ثيابه ويحلب شاهه، ومساعدة الرجل لزوجته لا تُنقص من رجولته بل تزيدها، وذلك ليس بالأمر الذي يتوجب الخوض فيه، فهو أمرُ بديهي.
لكن لنكن منصفين، وعلى قدرٍ من الحياد _ بعيدًا عن الدين_ إن كان الرجل يعمل خارج المنزل وزوجته لا تعمل ولا يقوى زوجها على أجرِ خادمة، فما الضير إن تولت هي أمور منزلها؟، فهذا ليس ظلمًا، أو نقصًا، بل هو تكافؤ، ومساواةُ في الأدوارِ، هي تتولى ما بالداخل وهو يتولى الخارج.
ولقد جاء علي بن ابي طالب يومًا إلى رسول اللّه يخبره أن فاطمة ابنته” وقد كانت أحب الناس إليه” جرت بالرحا، حتى أَثّرت في يدها، واستقتْ بالقِرْبة حتى أَثَّرَت في نَحْرِها، وَكَنَسَتِ البيتَ حتى أغبرَّت ثيابُها، وطلب منه خادمة فما كان من الرسول “ص” إلا أن قال لفاطمة “اتَّقي الله يا فاطمةُ، وأَدِّي فريضةَ ربِّكِ، واعملي عَمَلَ أهلِكِ” فلقد كان يؤثر باقي المسلمين بالخدمِ والأموال، فهذه فاطمة ابنه اشرف خلق اللّه، لم تترفع عن أعمال منزلِها، ولم يهنها زوجها، بل تعاطف معها وحاول التخفيف عنها.
هذا للنساء اللواتي يقارنّ دوما بين الاستقلال ونجاح الذات وبين الزواج، وكأن الأمرين متضادين! إن إثبات القوة الشخصية ليس بأن تنادي ليل نهار بسخافة الزواج والارتباط برجل، ولا أن ترفعي شعارات قد لا تعرفين لها معنى اصلًا، إن إثبات قوتك في كونك تتحملين مسؤلية أفعالك كاملة، في طاعتك لوالديك، في كظمك لغيظك، في عدم رد الإساءة، في إنشغالك بنفسك وبنجاحاتك حتى وإن تأخر الزواج فأنتِ تستطيعين مواصلة حياتك، في أدائك لمهام كنت تظنينها مستحيلة، في مساعدة الغير، إن جُل القوة يكمن في تضحيتك من أجل الغير.
ما التعارض أصلًا بين الزواج والإنجاب وبين تحقيق الذات؟، هناك المئات بل الألاف والملايين من النساء اللاتي ينجحن خارج منزلهن ولم تعيقهم الاطفال في تحقيق طموحهم. وفي هذه الحالة يمكن أن تقوم بالأعمال المنزلية خادمة، وإلا فلا بد من تشارك الزوجين وتخفيق الحمل على بعضهما.
فلدينا “توكل كرمان” متزوجة وأم لثلات أطفال، وهي أصغر حائزة على جائزة نوبل للسلام لعام ألفين وإحدى عشر في مجال حقوق المرأة، ورئيسة منظمة “صحفيات بلا قيود” ولدينا أنجيلا ميركل متزوجة، وقد أصبحت في السابق وزيرًا للبيئة ووزيرا للمرأة والشباب بألمانيا، وتولت زعامة حزب الاتحاد الديموقراطي، وحصلت على أكثر من عشرين جائزة ودكتوراة فخرية.
ولدينا زينب الثقفية زوجة الصحابي عبداللّه بن مسعود، والتي استأذنت الرسول “ص” بأن تتصدق عن زوجها لأنها كان فقيرًا. والكثير من النساء في عهد الإسلام كن يعملن بالنسيج والطب فمثلًا حين أصيب سعد بن معاذ في غزوة الخندق قامت على علاجه إحدى الصحابيات اسمها رُفيدة، بل قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “اجعلوه في خيمتها، لأعوده من قريب”..
ليس الأمر الأن على جواز عمل المرأة مادامت ملتزمة بزيها الشرعيّ، ولا نتناول أهميتها كأدم تمامًا، وبأنها خُلقت مثلها مثله، تقف إلى جانبة ويسند كلاهما الأخر، فهذا أمرُ مفروغ منه.
إن الإشكال كله، هو التقليل أو التحقير من شأن عمل أحدهم، المثقفة القارئة المتعلمة، التي اختارت العمل في منزلها والقيام على أبنائها والتفرغ لهم هي أم تستحق التحية والاحترام وهي أفضل مثال عندما نتحدث عن التضحية. التي اختارت العمل في منزلها وخارجة هي أم شجاعة وزوجة عظيمة، وتثبت لنفسها كل يوم أنها رغم ضعف فطرتها تستطيع أن تقف ثابتة الأقدام متولية أمورها، والتي اختارت الاستقلال المادي، والبعد عن الزواج، فلها الحق في الخيار وبالطبع تخوض معركتها هي الأخرى.
إذن يا سيدي، إننا لسنا في سباق، كُلُ منا بطلُ في قصته، كلنا يعيش الحرب والسلم، كلنا لدينا انتصارات صغيرة ولحظات انكسار، فلنقل خيرًا أو لنصمت.
بسم اللّه الرحمن الرحيم، “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.