تواجه المجتمعات بشكل مستمر على كافة الأصعدة تحديات كبيرة في جهودها التنموية، ومن أعظم هذه التحديات وأكثرها شدة تحديات استثمار الإمكانات والطاقات البشرية الهائلة الموجودة، مع ضرورة أن يكون هذا الاستثمار استثماراً رشيداً نوعياً يعظم من المردود الاقتصادي والاجتماعي لهذا الاستثمار من خلال توظيف الموارد الاقتصادية بكفاءة عالية، خصوصاً في الوقت الذي نعيش فيه عصر التسارع التقني والصناعي، وهو الوقت الذي بدأت تتطور وتتغير فيه ملامح الموارد الاقتصادية، وظهرت مزايا وآفاق جديدة لقوة العمل ورأس المال وتطور المفاهيم وصولاً إلى اقتصاد المعرفة.
وبالرغم من التطور المعرفي الهائل الذي حققته وتحققه الدول المتقدمة، فإن مؤسساتنا العربية ما زالت تتقدم ببطء نحو تحقيق مجتمع قائم على اقتصاد المعرفة وصولاً للتنمية الشاملة بشكل يمكنها من اللحاق بركب الدول المعرفية.
لذلك كان من الحتمي والضروري للقيادات المؤسسية وصناع القرار بكافة المؤسسات على اختلاف نوعية الخدمات والقطاعات التي تعمل به أن تتوجه توجه متقدماً وفاعلاً في التحول نحو اقتصاديات المعرفة وتحقيق التنمية الشاملة بمنهج متكامل ومخطط ومردود فعلي يحقق الأهداف المستقبلية للأفراد والمجتمع، ويحقق الرفاهية والريادة.
يقوم الاقتصاد المعرفي على استثمار المعرفة والمشاركة فيها بهدف تحسين نوعية الحياة بمجالاتها المختلفة من خلال التزود والتفاعل والتطوير من الخدمات المعلوماتية والتطبيقات التكنولوجية المتطورة واستخدام العقل البشري كرأس مال معرفي، وتوظيف البحث العلمي بأعلى معاييره وأنظمته لإحداث مجموعة من التغييرات الاستراتيجية في طبيعة الاقتصاد وتنظيمه كي يصبح أكثر استجابة وانسجاما مع تحديات العولمة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعالمية المعرفة والتنمية المستدامة بمفهومها الشمولي.
- جبل التروبيك.. الحلقة المفقودة في أزمة الرباط ومدريد
- الذات بلا مغالاة
- فاجعة طنجة.. “من سيُضمد في آخر الصيد جرح الغزال”؟
- ضِفافُ العاطفة على بحار العقول – عندما سألت العرَّافة جبران خليل جبران
- غليانُ الشُّعُور عبر النظرة الفكرية العالمية
ولتحقيق اقتصاد المعرفة لا بد أن يتوفر بنية تحتية مجتمعية واعية وتهيئة موارد بشرية وصناع معرفة يمتلكون المعرفة ولديهم قدرة على التحليل والابتكار، وتوظيف منظومة فاعلة للبحث والتطوير إضافة إلى توفير منظومة المشاركة والاستجابة بين كافة القطاعات المجتمعية والمؤسسية، ومأسسة أكثر شمولية للخدمات والأنظمة وتوافر سهولة وصول أفراد المجتمع إلى الشبكة المعلوماتية ونشر ثقافة مجتمع التعلم فكراً وتطبيقاً في مختلف المؤسسات.
تجربة سنغافورة
إن التجارب من حولنا كثيرة، ولعل تجربة سنغافورة خير دليل، فبعد الأزمات التي عصفت بها، وتبنيها استراتيجية التحول نحو اقتصاد المعرفة عبر خطط منهجية دقيقة، والاستثمار في الموارد البشرية ورعاية المواهب.
وشكلت الأبحاث والابتكار والمشاريع بمثابة ركائز أساسية لاستراتيجية سنغافورة الوطنية لتطوير الاقتصاد والمجتمع القائم على المعرفة، فصنعت سنغافورة لنفسها مكانة متقدمة بين الدول، وحققت الازدهار والنماء، واستطاعت تحقيق طفرة اقتصادية مدعومة بابتكارات متطورة شملت مختلف ميادين الحياة وعززت الاقتصاد الوطني بشكل فاعل.
إن امتلاك وسائل المعرفة بشكل موجه وصحيح واستثمارها بكافة أبعادها العلمية الدقيقة من خلال الاستخدام الكثيف للمهارات وأدوات المعرفة الفنية والابتكارية والتقنية المتطورة لا بد وأن يشكل إضافة حقيقية للاقتصاد الوطني وقاعدة للانطلاق نحو التحول إلى الاقتصاد المبني على المعرفة وتحقيق التنمية الشاملة.
ولو أردنا أن نختصر هذه الأهمية المتنامية فيمكن القول أن تبني اقتصاد المعرفة على الصعيد الوطني هو بمثابة شبكة الأمان الحقيقي للاقتصاد المحلي، إنه الاقتصاد الذي يشكل فيه إنتاج المعرفة وتوزيعها واستخدامها المحرِّك الرئيس لعملية النمو المستدام وخلق الثروة وفرص التوظيف في القطاعات كافة، إنه يقوم على أساس إنتاج المعرفة واستخدام ثمارها وإنجازاتها، بحيث تشكل هذه المعرفة مصدراً رئيساً لثروة المجتمع المتطوِّر ورفاهيته.