حينها كنت متسرعة حمقاء ولعلني كنت حمقاء متسرعة!! لا يهم ففي الحالتين كنت متسرعة وفي الحالتين كنت حمقاء.
لم أكن أعلم شكلها الحقيقي، لم أغص في عمقها لأكتشف وأفهم أن خارجها لا علاقة له بباطنها، كانت في نظري كلوحة آسرة أقف عندها لساعات طويلة، تدهشني وتصيبني بالحيرة، أراها غامضة وبالرغم من ذلك أبتغيها..
كطفلة أردتها بشدة بأي طريقة ممكنة وفي أقرب وقت ممكن، في ذاك العمر ظننتها كالألعاب والفساتين والوجبات اللذيذة التي أرغمت والداي على جلبها لي، كنت أصر عليها كإصراري على أي شيء ولو كان تافها إلا أن الفرق أنها بالنسبة لي كانت كل ما أود الحصول عليه لأنها لم تكن بشيء تافه أبداً… أو هذا ما ظننت.
تغاضيت عن سني وعن طفولتي وعن ألعابي، همشت كل من كانوا حولي ودست على الأشياء التي تصر على أن تعرقل طريقي وركضت نحو المجهول..
أحاول الحصول على شيء من الصعب الحصول عليه، أركض وراءها وكلما ظننت أنها النهاية وأنني سأمسك بها وجدتها تبتعد عني بفارق السماء عن الأرض ولم أفهم إلا بعد ضربات مريرة أنها كالهواء من المحال الإمساك بها بل من المستحيلات إمساكها والحصول عليها ومن الصعب التقرب منها ومرافقتها، فهي خادعة وماكرة وإن كانت اليوم معك كن أكيداً أنها غدا ستنقلب ضدك..
تسابقت كثيراً مع الزمن لأصل إلى عمر يسمح لي بالاستمتاع بكل ما قد تقدمه لي الحياة دون قيود ودون رفض ودون خطابات من أحد، وحينما وصلت إليها وجدتها هي من تستمتع بي بدلاً عني، واكتشفت أن جمالها لم يكن سوى خدعة وأقر أنها خدعتني..
فهي لم تكن سوى قبيحة تتجمل وأفعى في ثوب الغزال وسحقتني مراراً وقاومتها تكراراً وبعد أن كان كل همي الفوز بها صار كل ما أريده منها أن أسلم من شرها بعد أن خيبت ظني وكسرتني وأدخلتني في متاهات لولا رحمة الله بي ما كنت لأجد المخرج وكنت حتماً سأضيع في طرقها المؤدية نحو المجهول، نحو الظلام، نحو اللاعودة..
الآن فقط فهمت لماذا كلما قلت لأمي ”متى سأكبر؟؟”، كانت ترد علي بنبرة حزينة ”سيأتي اليوم الذي ستكبرين فيه كما تمنيت وحينها فقط ستقولين ليتني أعود طفلة ولن تعودي بل ستستمرين مرغمة على عيش حياة لا تشعرين بالانتماء إليها وستواصلين في حياة لا ترغبين بها وستتحملين فكرة كونك أصبحت كبيرة بمنتهى القهر وستستوعبين أن الزمن يتقدم بنا إلى الأمام، وكم هو مستحيل أن يعود بنا إلى الوراء حيث كنا أطفال“..
وأنا في عمر صغير كنت أفهم جيداً كلامك يا أمي ولكنني لطالما أخذته على محمل الاستهزاء، كنت في نظري لا تقدرين النعيم الذي أنت فيه ولم أكن أعلم أن النعيم الذي أراه هو نقمة تمرين بها، لا أعلم عن ظروفك شيئاً، لا أعلم كم مرة انكسر قلبك فيها وكم من خسارات عبرتك ولم تعبريها، لا أعلم عن مقدار الوجع الذي شعرت به ولا أعلم هل كان والدي يسيء إليك في الخفاء بعيداً عن ناظري ولا أعلم كم من شخص خذلك وكم من قساة القلوب تسببوا في أذيتك ولكن كل ما أعلمه أنك كنت صادقة في كل ما قلته..
وها هو الآن يا أمي ينطبق علي وكأنك تنبأت بما قد يحدث معي وأدركت متأخرة أن الحياة ليست بتلك الأهمية التي منحتها لها وليست بتلك الصورة التي رسمتها عنها والآن وبعد أن فات الآوان أقول بقلب ينزف ”ليتني أعود إلى تلك الطفلة التي لم أنتبه لوجودها وأنا أحاول الحصول على شيء وجدت فيه هلاكي..”
بعقل طفلة كنت أظن أنني لن أكبر إذا لم أسعى لهذا من أجلي بنفسي ولم أفكر قط أنني سأكبر عاجلاً أو آجلاً، شئت أنا أم أبيت.. ربما لو فكرت في هذا من قبل لوفرت علي أمور عدة، ولكن ما عاد شيء ينفع وما عاد هناك شيء يعيد ما رحل منا ويصلح ما انكسر فينا..